في ذكرى رحيله الخامسة عشرة: العراقي محمود البريكان… العزلة بوصفها نسقا شعريا

صفاء ذياب: هل يُنسى الشاعر حين يُقتل كما قتل الشاعر العراقي محمود البريكان بسكينة، تعرف طريقها جيداً للحياة؟ ربما يكون هذا التساؤل غير منطقي، لكن المنطقي فيه أننا غالباً ما ننسى رواد أدبنا بمجرد أن تمرَّ ذكراهم الأولى أو الثانية على أكثر تقدير.. وهكذا بالفعل نُسي البريكان، نسي مثلما أراد هو طوال حياته، فقد قررنا نحن أن نسكت عنه مثلما أراد هو طوال حياته الابتعاد عن الأضواء.
البريكان، ذلك الشاعر الذي يعد أحد مؤسسي الحداثة الشعرية الحديثة بعد السيّاب والملائكة، غير أن تأثيره بقي محدوداً بسبب ابتعاده عن إصدار كتاب شعري حتى رحيله في الثامن والعشرين من شهر فبراير/ شباط عن عمر يناهز الـ71 عاماً.. الآن، وبعد خمسة عشر عاماً على رحيله، هل ما زلنا ننظر للبريكان بوصفه مجدداً في الشعر العربي الحديث؟ وهل ما زال مؤثراً على الرغم من بروز مدارس شعرية جديدة؟
الإرث المفقود
الناقد أسامة الشحماني كانت رسالته في الماجستير عن تجربة البريكان الشعرية، لذا فهو يتساءل أولاً عن إرث البريكان الشعري. قائلاً: لم يكن شاعراً وحسب، إنما كانت له مخطوطات صنفهما هو ككتب: الأولى في عروض الشعر وأسلوب موسقة الشعر الحديث، والثانية في الموسيقى الكلاسيكية وأثرها في الشعر الحديث، وقد حدثه عن هاتين المخطوطتين، حين كان يزوره في بيته في البصرة في حي الجزائر في الأعوام 1995- 1997 خلال مدة كتابته لرسالته. ويضيف: لعلي لا أبالغ هنا إذا قلت إن تجربة البريكان الشعرية تقدمت على السياق أو النسق الشعري الذي ظهرت سماته على مجايليه، وذلك على صعيد موضوعاته، أو لنقل همه الشعري وموقفه الوجودي مما يحيط به، فضلاً عن المستوى الأهم، الذي قلّده فيه عدد من الشعراء العراقيين، دون الاقتراب من سحنة البريكان وحساسيته اللغوية، وهو البناء الفني لنصوصه، ابتداء من اختيار المفردة، مروراً بالجملة وصولاً إلى النص كجسد متكامل، ومن هنا أقول إن مناهج النقد الحديث، خصوصاً اللسانية منها، يمكنها أن تجد في البريكان مادة بحثية دسمة لتلمس العديد من طبائع شعريته العميقة.
القراءة المتأملة
يقول الشاعر عيسى حسن الياسري إننا حين نقرأ هذا الشاعر ضمن زمنه التاريخي وليس الشعري، نجده يفترق عن مجايليه من الشعراء الذي شكلوا مثلث الحداثة – السياب، الملائكة، البياتي- فإذا كان يشاركهم في تفكيك بنية القصيدة التراثية وهدم عمودها الشعري، فهو يفترق عنهم في الآليات التي تحكم تقنيات نصه الحداثي المنتج.
لقد ظل شعراء الريادة من معاصريه يحتفظون بجانب كبير من غنائية النص ورومانسيته، مع الأخذ بشيء من آلية الكتابة الشعرية وعدم التوقف عند تشكيل الصورة الشعرية، كما عند السرياليين، في حين كان البريكان يقف عند تشكيلاته الفنية وبناء الصورة الشعرية طويلاً، كما أنه يطيل التوقف عند كتابة نصوصه مهما كانت قصيرة، ويستغرق وقتاً في تأثيثها الفني.
ويضيف الياسري أن القارئ المتأمل لمنتج البريكان الشعري يجده يزاوج ما بين الشعري والفلسفي، ما يجعل من نصوصه حقلاً خصباً للدراسات النقدية التي تهتم بالمدارس الشعرية وتطورها الفني.. وهذا في حد ذاته يعكس مدى ثقافة هذا الشاعر الموسوعية، وتعرّفه على أهم التحولات الفنية التي رافقت الشعر العالمي، لاسيما تحولات القرن العشرين التي افتتحها ترستيان تزارا بمدرسته (الدادئية) وتوجها الشاعر الفرنسي بريتون بمدرسته (السيريالية)، رغم هذا فلم يجد نفسه في هاتين المدرستين اللتين تعتمدان الهدم لما تقدم عليهما، بل انجذب نحو منتج شعراء لم ينضووا تحت مسمى خاص، إنما انتهجوا طريقاً خاصاً بهم، إذ مزجوا بين الفن كمنتج جمالي يتآزر الوعي الداخلي والخارجي على خلقه. ويبدو أن البريكان استهوته مدرسة الشعر التي تجمع الشعري بالفلسفي في توازن لا يحدث خللاً في بنية الشعر، وهذا ما جعل من شعره أكثر قرباً من القراءة المتأملة وليس الإلقاء المباشر.
المبني على السكوت
ومن وجهة نظر الشاعر والروائي محسن الرملي، فإن ما بقي من البريكان هو ما بقي علينا نحن أن نفعله، ألا وهو إعادة قراءته والحث عليها وتأمل تجربته في الأدب والحياة. البريكان حالة خاصة في ثقافتنا من حيث نتاجه الشعري، ومن حيث سيرته ومواقفه وموته التراجيدي الغامض، الذي يرى أن يتم التذكير الدائم به وإعادة قراءته والحديث عنه وعن أعماله، كما يحدث في إسبانيا مثلا عند استعادتها للوركا بمناسبة مرور ذكرى مقتله في كل عام، إذ يتم النقاش والجدل ومحاولة فك لغز موته ويصاحب ذلك بالطبع، وهو الأهم، الحديث عن نتاجه الإبداعي. فإذا كان البريكان زاهداً ومبتعداً عن الأضواء والنشر في حياته فهذا لا يعني بأن نزهد نحن أيضاً حيال تجربته المهمة، فنتاجه كان سابقاً في حداثته للكثيرين من مجايليه وكان السياب نفسه معجباً به، بل لا مانع من أسطرته (تحويله إلى أسطورة) فهذا جزء من طبيعة الاشتغال الثقافي لخدمة ما هو إنساني، وبالنسبة للنقد الحديث فبلا شك أنه قادر على تناول أي نص مهما كان قديماً وإعادة قراءته وتقديمه، فكيف والأمر يتعلق بشاعر مؤسس في حداثتنا الشعرية. «شخصيا أحب شعر البريكان وشخصه، غِنى النفس عن المغريات العابرة واستغناء الشعر عن مغريات الزينة اللغوية، إذ يتطابق شكل نصه مع ثيمته ويتطابق شخصه مع نصه، بساطة، عمقا، حيرة، وصفا موجزا وأسئلة كثيرة. ويمكننا استعارة عنوان إحدى قصائده «المبني على السكوت» كي نواصل بناء معرفتنا له والتعريف به حتى عبر تأمل واستنطاق ما سكتت عنه قصائده، وما سكت عنه هو في حياته، وبمناسبة قصيدته هذه مثلاً، أرى في أبياتها الأخيرة الثلاثة، تكثيفاً مدهشا لسيرته كمعلم وتنبؤا بموته مطعونا، إذ يقول:
على أفق السبّورة
نظارة داكنة وخنجر
وغبار من دمك».
الشاعر الأبتر
غير أن ذكرى البريكان هذه تضع الناقد عبد الغفار العطوي أمام التساؤل نفسه: ما الذي بقي من الشاعر كي يحتفى به؟ إرثه الشعري المبعثر المتنازع عليه بين ورثته، الذي تتناهبه الدراسات الأكاديمية الركيكة السطحية؟ أم ثقافة العزلة التي روج لها بعض مثقفينا حول حياته وشعره، وتوجت بحادثة مقتله كمبررات لهذه الثقافة، وقيل حولها ما قيل من شائعات ومضاربات، حتى أتت أكلها على أنها ممارسة هرع إليها الشاعر كطقس إبداعي؟ لكن يظل السؤال حائراً في أي المسارات الإبداعية يمكننا حصر بقاياه، خاصة أن البريكان كان أبتر شعرياً، إذ لم يحذ حذوه أحد، ولم يسر على منهجه سائر، ولم يستسغ رؤيته طارف أو محدث، أفرد في حاضنة لا تستوعب أفقه الشعري التحديثي الذي مال به عن المألوف نحو الخطاب الفلسفي أو التفلسف. ويقف العطوي عند مسألة الحصر، التي اجتهد بعض المعجبين في كتابته للشعر من شعراء وباحثين ومثقفين ممن تستهويهم الفذلكات على إرساء مفهوم عزلة البريكان (الفلسفية) على اعتبارها مباني صلدة في الشعرية العربية، التي أسست لتيار البرناسية، كان يتصور هؤلاء المأخوذون ببهرجة شعره القائم على التأملات الصورية، إنما ينظرون لمنحى شعري محدث مشبع بالإشكالات الميتافيزيقية التي هي بالتأكيد تعرقل بنية الشعرية العربية وتمجها الذائقة الغنائية، التي درجت على التلقي التقليدي للشعر، لكن البريكان- والحق يقال- ظل مشدوداً إلى الهوس الفلسفي الفذ، سطوة تساؤلاته نجحت في إذكاء جمرة التحديث المطلع عليه في مصادره الغربية، دون الالتفات إلى حاضنته التي تغذي إلماحاته الصورية، مما كان يحسبها مريدوه كماليات فكرية وفلسفية.
القضية هنا- بحسب العطوي- في إنه لم يصغ لوعيه في ما يعمل ويؤسس ما دام هو قد ألزم نفسه الجدة في هذا المسار، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، وهذا ليس طعناً به، ولا التجريح في شخصيته، أو الحط من قدره أو موهبته وسعة اطلاعه المعرفية ورصانة ثقافته مطلقاً، حياته التي خلق لها مفاعيل سرية غامضة وأعانه الأصحاب في ترسيخها، هي التي هدمت بمعول الأنانية انبناءات محاولاته في استمالة الشعر إلى الصيغة الفلسفية البرناسية، وعجلت في طي صفحة حداثته. كان مهووساً بالتخيل، والهروب إلى أمام، نحو التمظهر بالحداثة التي أنكرها عليه مجتمعه، كي يتقوقع في عزلة وهمية ابتدعها، غير فاطن أو متنبه إلى أنه سيموت أبتر لا إرث شعري يختطه السائرون في ركبه سوى لغط عقيم وتساؤلات من ضمنها ما الذي بقي منه يستحق الاحتفاء به. غير أن الشاعر ثامر أمين يشير إلى أن البريكان يتمتع بمكانة عالية في ساحة الحداثة الشعرية العراقية والعربية، وهو على الرغم من حياته الغريبة التي عاشها في عزلة فرضها على نفسه وصمت طويل بعيداً عن الأضواء إلاّ أن هذا لم يمنع نصوصه الشعرية من أن تبقى علامات مضيئة في عالم الشعر، فهي نصوص مغايرة، فيها من العمق والخصوصية في البنية والنظام اللغوي ما يمنحها التفرد والابتعاد عن السائد والكثير من الشعر العربي، الذي يندرج اليوم تحت يافطة الحداثة، وباعتقاد أمين أن منجز البريكان لم يحظ بالدراسة الجادة والموسعة التي تصل إلى عمق نصه المكتنز بالدلالات، على الرغم من مرور خمسة عشر عاماً على رحيله، إذ ظل إرثه الشعري يعيش في عزلة، كما عاش شاعره، فالمقالات التي كتبت هنا وهناك بحقه لم تكن كافية لإضاءة عالمه الشعري الزاخر بالتساؤلات الفلسفية والصور الجمالية، لهذا يجد أن الحاجة ما تزال قائمة إلى إعادة قراءة حقيقية لمنجز البريكان وفق منهج النقد التحليلي، أو النقد الانطباعي الذي عرف به وأجاد الخوض فيه الاستاذ الراحل علي جواد الطاهر، وهو منهج يعمق فهمنا لبنية القصيدة من خلال سبر أغوارها، بالتحليل والاستنباط، ذلك أن نصوص البريكان في جوانب عديدة منها يحيطها الغموض، وبالتالي تحتاج إلى كشف وإضاءة للوصول إلى عمقها والتفاعل معها.
لقد أجمل البريكان خصوصية تجربته في الرد على تساؤل حينما قال «أنا لا أكتب بشعرية سائدة أو بشعرية خالية من المغامرة، وينحصر عندي مفهوم الحداثة بمدى قدرته على استيعاب المواقف الشاملة، الأكثر تعبيراً عن تلك المسؤولية الكونية الواقعة على عاتق الإنسان في هذا العالم، ولذا لا يلبي العديد من نصوصي كثيراً من حاجات المتلقي العادي، لأني لا أكتب للإجابة عن التساؤلات وإنما لطرحها، وقد لا يروق هذا لمن يقرأ لكي يقضي وقت الفراغ).
(القدس العربي)