في قاعة «زاوية» في القاهرة: عرض «شحاتين ونبلاء» في وداع أسماء البكري

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد عبد الرحيم
المصدر / القدس العربي
أقامت قاعة «زاوية» التابعة لشركة مصر العالمية، بعرض أول الأفلام الروائية للراحلة أسماء البكري 28 أكتوبر/تشرين الأول 1947 ــ 5 يناير/كانون الثاني 2015، بحضور بعض السينمائيين والنقاد، منهم يسري نصر الله وعاطف حتاته والمُنتجة ماريان خوري.
ورغم الأعمال الروائية القليلة لأسماء البكري، إلا أنها كانت دائماً مختلفة عن السائد والمتداول في السينما المصرية، خاصة أنها اعتمدت على روايات كاتب استثنائي مثل ألبير قصيري، وقد نقلت عن رواياته فيلمين هما «شحاتين ونبلاء1991 « عن روايته «شحاذون ومعتزون» و»العنف والسخرية»2003 عن رواية بالاسم نفسه، إضافه إلى عمل يستوحي حالة التناقض بين الأفكار الشعبية والفئة المثقفة، في عمل متواضع فكرياً، ذلك في فيلم «كونشيرتو في درب سعادة» 2000. عملت أسماء البكري في بداياتها مساعدة للمخرج يوسف شاهين في فيلمي «عودة الابن الضال» و»وداعاً بونابرت». كما قدمت العديد من الأعمال الوثائقية منها… «قطرة ماء» 1979، «دهشة» 1981، «بورتريه» 1983، و»النيل» 1997.
عالم البير قصيري
وقعت أسماء البكري أسيرة قصيري وشخوصه، حتى الفيلم الوحيد البعيد عن هذه الشخوص «كونشرتو درب سعادة» لم يخرج عن الخطوط العريضة لشخصيات وأماكن قصيري، بغض النظر عن مستوى الفيلم، الذي جاء متواضعاً مقارنة بـ «شحاتين ونبلاء» فالأفكار الفلسفية للرجل وموقفه من السُلطة عموماً في شكليها السياسي والاجتماعي، واعتبارها ــ السُلطة ــ آفة ضرورية، لا تستحق سوى مواجهتها بالسخرية، بعيداً عن الأقوال النضالية الفارغة لفئات المجتمع الموهومة. عالم صادم لكل مُدّعي الثقافة، يكشف عن نفسياتهم الخربة، ويجردهم في قسوة من حِسهم الوهمي بالتعالي على الفئة التي يدافعون عنها، ويتكسبون من مآسيها. لم يكن قصيري يريد سوى الكشف عن وسائل السعادة المبهجة لحياة قصيرة، لابد من عيشها والفوز بها بأبسط الطرق، وحاولت أسماء البكري قدر المُستطاع التعبير عن هذا العالم وهذه الأفكار عبر فيلميها المأخوذين عن البير قصيري.
شحاتين ونبلاء
«شحاذون ومعتزون»، أو «شحاذون ومتعجرفون» في ترجمة أدق لروح الرواية. الفيلم قام ببطولته كل من صلاح السعدني، محمود الجندي، أحمد آدم، عبد العزيز مخيون، لولا محمد، وعهدي صادق. سيناريو أسماء البكري وحسام زكريا.
مدير التصوير رمسيس مرزوق، ديكور أنسي أبو سيف، موسيقى مصطفى ناجي، إنتاج مصر العالمية 1991. تدور الأحداث في منتصف الأربعينات والحرب العالمية تحط آخر لحظاتها، وقت مشحون بالتوتر في العالم أجمع، إلا أن حواري مصر كانت في عالم آخر، من خلال شخصيات غرائبية توازي أحداث الحرب الأكثر غرابة تبحث الشخصيات الأساسية للرواية/الفيلم وعلى رأسها «جوهر» أستاذ الفلسفة الذي ترك الجامعة والكتب التي تنضح بالأكاذيب، وقرر الابتعاد عن العالم المزيف والاحتفاظ بروحه بعيداً عن هذا الوباء، في سبيل الفوز بحريته وإنسانيته، إضافة إلى الشاعر «يكن» والموظف الحكومي «الكردي».
الشخصيات همها الأوحد هو البحث عن السعادة، رغم ما تعانيه من شقاء وبؤس ظاهر، وتتجلى هذه السعادة في كلمة واحدة.. الحرية. فالشخصيات ترفض كل القوانين والمسميات الفارغة، فهي تعرف كيف تعيش حياتها، وهي الحالة القصوى من حالات الرومانسية. فقراء ولصوص ومدمنون وعاهرات ومشردون، ولكنهم يحافظون على الكنز الوحيد لديهم، وهو الاحتفاظ بآدميتهم، دون الشكل الساذج للتضحية والظروف وما شابه، بعيدا عن انتهاكات المجتمع وسلطته، ومحاولته تشويه النقاء الروحي لهؤلاء.
الشخصيات
يُعرف «جوهر/صلاح السعدني» في الحارة بالأستاذ، وهو العقل الحي للجميع، يعمل محاسبا في أحد بيوت الهوى، فقط لتأمين إيجار غرفة ضيقة خالية من الأثاث، اللهم إلا من جرائد قديمة يستخدمها كوسادة للنوم، فهذه هي فائدتها الوحيدة، إضافة إلى تدخين الحشيش، والحلم بتوفير أكبر قدر منه كسبيل لحياة مُحتملة، صديقه الأقرب «يكن/أحمد آدم» شاعر دميم، يحب إحدى العازفات من الفئة الراقية، ويتعذب ويكتب الشعر، لكنه قادر على العيش ومواجهة الحياة، بينما صديقهم الثالث «الكردي/محمود الجندي» الذي يعمل موظفاً لدى الحكومة، يعيش حالة من النضال الذي يدعو إلى السخرية، فهو يحب إحدى فتيات بيت الهوى، ويريد أن يدافع عن الفئات المقهورة في شخصها، بأن يخلصها من جحيم البيت، ويتزوجها. الكردي هو الأكثر صخب وطنطنة بالأفكار الفارغة عن النضال والمواجهة، من دون أن يفعل أي شيء، خاصة وهو الوحيد الذي يستسلم للسُلطة ويعمل لديها ــ العمل لدى الحكومة في عُرف قصيري وشخصياته ما هو إلا سُبّة وقِلة حيلة ــ وسط هذه الأجواء تُقتل إحدى فتيات البيت «أرنبة» فتصبح المسألة هي البحث عن القاتل، ليظهر الضابط «نور الدين/عبد العزيز مخيون» ويقع تحت رحمة جوهر وحوارييه، من دون أن يشعر بأنه يدنو من فخ وجوده، ويقترب من مصيره المحتوم، الذي طالما بحث عنه!
جوهر ونور الدين
يحاول نور الدين البحث عن القاتل، إلا أن القتل لم يكن بدافع السرقة أو أي شيء، لذا يقترب أكثر من عالم النبلاء، ويعلم أن جوهر هو العقل المفكر، يكشف جوهر عن الفساد الذي يحيط بنور الدين، وأنه لم يختر مهنته كضابط، بل يعيش في سجن كبير فرضته عليه سُلطة الأب والمجتمع، خاصة أن ميوله الجنسية تنحو نحواً آخر، مما جعله يعيش في سجن كبير.
وكانت سخرية جوهر ورفاقه من ضابط الشرطة ممثل السلطة التي يكرهونها، الضابط الذي يريد معرفة سر قتيلة بيت الهوى، الذي يعمل به جوهر، بتوجيه سؤال وحيد إليه، وهو ماذا يعمل؟!
وفي استغراب يشير الرجل إلى الزي الرسمي الذي يرتديه، ويقول في تباهٍ جاهل: ضابط شرطة، فجاء رد أحدهم ليصدمه، بأن هذه ليست مهنة، فكيف تكون كل مهنته في الحياة أن يقبض على إنسان يُماثله في الإنسانية؟ هذه الحقيقة التي وضعوها أمام عينيه، أتت ثمارها في النهاية، فخلع الزي الرسمي، وجاء إلى المقهى لينضم إليهم، وقد عرف معنى السعادة.
فالقتل من الممكن أن يكون مجانياً، إلا أن الحياة الحقيقية تستحق أن تُعاش، وتحققت بذلك نبوءة جوهر «القاتل» وتصالح نور الدين مع ذاته أخيراً، وقد تخلص من سجن الأكاذيب الذي كان يحيا فيه. وتوصل إلى راحة البال، الذي حدّثه جوهر عنها من قبل.
المعادل البصري
من الصعوبة التعبير عن أفكار قصيري وتصويرها، إلا أن أسماء البكري حاولت قدر الاستطاعة الاقتراب من هذا العالم، من دون أن تنجو أحياناً من فخ الديالوجات الكاشفة والعبارات الفلسفية، وربما مشهد لحظة الكشف التي أدت بجوهر إلى ترك الجامعة، الذي جاء في شكل فلاش باك، ليوضح الشخصية أكثر، كان مشهدا مُفتعلا إلى حدٍ كبير. إلا أن أجواء الأربعينات وغرائبية الشخصيات تم التعبير عنها في شكل جيد، وإن كانت تتحدث بحكمة ووعي أكبر من قدراتها. إلا أن اللافت هو اختيار الأماكن وملابس الشخصيات وإكسسواراتها، واختيار لون عام للفيلم يوحي بالقِدم وكذلك إضاءة ليلية في أكثر المشاهد، مع سيطرة لون حي يقترب من درجات الأحمر الداكن في ما يخص جوهر ورفاقه، تعبيراً عن الاكتفاء والاحتفاء بهذه العزلة الاختيارية، مقابل برودة حجرة تحقيق نور الدين على سبيل المثال رغم الإضاءة المنتشرة التي تماثل ضوء النهار الزائف.
من ناحية أخرى لم يكن بيت الهوى مثلما تم اعتماده في السينما المصرية، بل كان أكثر إنسانية، خاصة أن صاحبة البيت «الست أمينة/لولا محمد» تحيا الطقوس الشعبية والدينية من دون أي تناقضات، فهي تذهب بالبنات يوم الجمعة لزيارة السيدة زينب وسيدنا الحسين، للزيارة والتبرّك.
وذلك بعيداً عن الشكل الكلاسيكي لهن كضحايا، بل يمثلن مهنة كالعديد من المهن، التي يراها جوهر أنبل بكثير من مهن أخرى كمهنة الكردي أو نور الدين على سبيل المثال