قراءة في أعمال التشكيلية المغربية ليلى العراقيالمرأة والتشكيل: الأيقونة والمُنجَز

الجسرة الثقافية الالكترونية
عز الدين بوركة *
المصدر / القدس العربي
التشكيل حب تقول الفنانة التشكيلية المغربية ليلى العراقي إنها وَلجت للفن التشكيلي عبر الحبّ والمعرفة قبل اللون واللطخ… تتكون اللوحة (المتعددة) لدى ليلى العراقي من مجموعة عناصر استيتيقيا (جمالية)، تنقسم إلى وحدات أساسية وأخرى ثانوية. أهم ما يميّز «الأساسي» داخل اللوحة عندها، هو ذلك الحضور للمرأة (الجسد)، بشكل دائم وفني، كمُشْتَغَل عليه باستمرار.. فالمرأة التشكيلية –كما عهدناها- أخذت أنوثتها لتضعها على أرض اللوحة، لتصيرَ بالتالي موضوعَ اللوحة الأساسي.
حضور المرأة في تاريخ الفن
تحضرُ المرأة إذن مُنجِزاً (بكسر الجيم) ومنجَزاً على القماش/اللوحة والسند.. إن كان هذا الأخير –أي المنجَز- قد وظّفته مجموعة من الفنانين والرسامين في أعمالهم، بمختلف المدارس التشكيلية، الواقعية منها والانطباعية والسريالية، كما هو الحال عند التجريدية وما بعدها من الحداثية.. (دافنتشي، أنجلو، بيكاسو، رافائيل، فان آيك.. فان غوغ، مونيه كلود اوسكا، رينوار بيير اوجست… بيكاسو، سلفادور دالي…)، كما داخل البلاد العربية كان لتيمة المرأة حظ وافر من حيث الاشتغال من قبل الفنانين التشكيليين «الرجال» (ضياء العزاوي، إسماعيل الترك (العراق)، أحرضان (المغرب)، حسين طلال، عبد الكريم الأزهر (عبر الوجوه المُبهمة)، عبد السلام أزدام (بشكل صوفي صرف)…) فقد اتخذ بالتالي-أي المنجَز- مُختلف الأشكال الاستيتيقية- على تعدد اشتغالات هؤلاء الفنانين.
المرأة.. جسد
ظلّ الجسد شيء مقدس يُحرّم الاقتراب إليه وتعريته، وتناوله في الرسومات في العالم الشرقي، عكس ما كان عليه الحال في عالم ما بعد البحر المتوسط، بقيَ هذا الأمر لقرون خلت إلى حدود تلك «الفتوحات» الاستشراقية، وبداية الاستعمار في القرن التاسع عشر، ودخول «اللوحة المسندية»؛ التي يرجح الحداثيون أن مفهوم اللوحة ظهر معها؛ إلى بلاد العرب مع الفنانين (الرسامين) التشكيليين الغربيين الأوائل الذين اتخذوا من الطبيعة العربية والجسد (المرأة) موضوعا لأعمالهم (التشكيلية والتصويرية أيضا).. مما ترتب عليه بعد قرن من الزمن ونيّف، وظهور أوائل بوادر الحركة التشكيلية العربية أوائل القرن العشرين، فقد تأثر الرواد بهذه التيمة (المرأة/الجسد) ، وتمكن لهم كسر القواعد (التابوهات).
غير أنه يبقى الأمر الأمْيَز، حينما نقف أمام ذلك التجسيد السِمولاركي ( تلك النسخة المحرّفة كما يُسميها جيل دلوز، ويذهب إلى أن يفصح عن قوة إيجابية في الصورة الأصلية والنسخ معاً، كما تنفي النموذج الأصلي والاستنساخ؛ إنها كما يقول عبد السلام بنعبد العالي «نسخة بالمعنى الكامل والمناقض للكلمة»؛ بخلاف ما ذهب إليه أفلاطون ذلك الفيلسوف اليوناني للتنقيص من قيمة السِمولارك..)، تجسيد لجسد المرأة.. عبر صورة (لون) مركبة تركيبا غير واضح المعالم (تشكيليا) وواضح الرسالة، وبليغ المعنى.. وإن كان عند البعض يهرب إلى اللامعنى والعبث، كمدرسة فنية جمالية..
تحضر المرأة (الجسد) في مجموعة من أعمال ليلى العراقي، عبر صورة جمالية من اللون واللطخات الصائبة (لا يسعفنا إلا هذا الوصف). امرأة تجلس القرفصاء – أحيانا- حاملة بين يديها لوحاً، من خلال سمولارك يكون له أن يصيرَ صورة (مرآة) تنقل الأصل وتعدّله (لا تشوّهه)، إنه إشارة واضحة اللون، ومُبهمة الرسم (بشكل فني)، إلى تلك المرأة الصوفية العالمة والباحثة والروحانية.. تلك المرأة التي همها الصفاء الروحي وسلام الذات والارتقاء.. الارتقاء (لا النشوء) هو ما يمكن إطلاقه بصريح اللون على اللوحة والتوظيف السمولاركي للواقع عند ليلى العراقي.
الجسد.. ارتقاء
الجسد عند ليلى العراقي هنا هو شكل استاطيقي/جمالي صرف، بعيداً عن الإيحاءات «الجنسية» الزائدة، والتلميحات الغرائزية التي لا تزيد اللوحة إلا نفورا.. إنه ارتقاء كما أسلفنا الذكر، ونوع من الزهد عن الملموسات إلى اللامحسوسات، عبر تصوف باذخ الملامح والتعابير التشكيلية، خاصة عبر حضور ألوان يتغنى بها الصوفي في شطحاته وأشعاره التي يرتقي بها ليتحد والذات الإلهية في البعد الميتافيزيقي للذات. إنها الألوان الأصفر والأزرق والأبيض والأحمر.. نوع من الجذب خاص.. ألوان وإن تضفي على عين المتلقي (العاشق) تلك الإرياحية في النظر، فهي تنقل اللوحة إلى بعد تجريدي، يسهل الهروب منه إلى الحداثة التشكيلية وما بعدها، من حيث توظيف لمسات خاصة بالفنانة.
نادر هو الاشتغال عند الفنانين التشكيليين العرب، على ذلك التركيب installation داخل اللوحة التشكيلية عينها.. إلا أننا نجدها- أي ليلى العراقي- تشتغل على مختلف الأسناد (الخشب الكارتون الورق القماش…إلخ)، وتركّب فوقه منحوتات جبسية (وجوه)، تضفي عليها لمسات (روتوشات) خفيفة، فنية، تنقلها إلى ذلك البعد الفني الجمالي.
الحرف.. الصوفية
ليس بالضرورة أن تكون الفنانة امرأة (أنثى)، لتستطيع نقل تلك الهواجس الأنثوية التي تختلجها، وتخرجها بشكل فني فوق القماش، فاللون والتشكيل (كما الكتابة عند البعض) يحتاج لعميق فهم وحب بليغ وبحث ركيز في عوالم الصباغة. غير أنّ ليلى العراقي وهي الفنانة العصامية، التي اشتغلت في ما مضى من الزمن أستاذة في كلية الطب، أحست برغبة وحاجة للتعبير عبر الصباغة والتشكيل، فهي لم تكن بعيدة عن هذا العالم التشكيلي، بل كانت قريبة إليه بشكل يومي عبر شغف المعرفة والتنقيب في خباياه. قليلات هن الفنانات التشكيليات اللواتي يبحثن عن التجريب داخل المُنجز عبر الرسم والمحو في استمرارية دائمة، بحثا عن مُنجز متفرد وخاص، وهذا ما تسنى لليلى العراقي بعد توظيفها بشكل رونقي لتلك المعالم الصوفية (الزواية، دور القرآن الكتاتيب، الْمْسيد… إلخ)، انتقلت بالمحافظة على الطابع الصوفي إلى العمل على الجسد (المرأة)، موظّفة أنواعا جديدة من الاشتغال (الكولاج، الخط..).
لجوء الفنانة إلى الخط ليس بحثا عن معنى في الجمل (لا وجود لها)، بل هو توظيف ذا طابعين، فهي تجعل منه تحديدا أساسيا ودالا على هوية الفنانة العربية المتشبثة بها لونا وحرفا، وأيضا هو توظيف جمالي يهرب باللوحة إلى أقصى الحداثة في بعدها «اللامعنى»، وإن يحضر المعنى عبر الرسم (الجسد)، وبالإضافة إلى كونه استعمالا يوحي بالطابع الصوفي الذي هي متأثرة به فكرا ولغة وصباغة. فالاستعمال الحرف يضفي على اللوحة طابعا إيمانيا روحانيا، يعلي بالمُنجز إلى قيمة لا محسوسة (لا مادية)، وينفخ فيه روحا تنبض بالإيمان. لا ينتمي الخط عند العراقي إلى أي مدرسة تاريخية بعينها، فهو توظيف رمزي (ولو كان حاضرا عبر مدارس كالكوفية مثالا، إلا أنه توظيف ناتج عن تلك العملية الجمالية للكولاج (اللصق) لا عبر الكتابة فوق القماش). فبالتالي هو هروب من الانسياقية الواحدة. والمحاولة للتعدد والتجدد.
في البدء كانت الأنثى
ظلت الأنثى، تلك الربة/الإلهة (عشتار، أفروديت…) تحتل عرش الألوهية لقرون خلت قبل ديانات التوحيد، وكان للمرأة قيمة تقديسية علية، بما ارتبطت به من مفاهيم الخصوبة والعطاء والولادة والغيث، ومع قدوم ديانات التوحيد، ولو أنها انتزع منها ذلك «الطابع الغيبي»، إلا أنها ظلت محتفظة بنوع لها من القداسة عليه.. تلك القداسة التي يحاول صياغتها لونا الفن التشكيلي الحديث، وهذا ظاهر عند الفنانة التشكيلية ليلى العراقي، في توظيفها للمرأة (رسما) في لوحاتها، فهي العارفة بقيمتها التاريخية والدينية والتشكيلية، تجعل منها تيمة اشتغالها الدائم على منجزاتها. وتترك لها مساحة السند كله. إنه نوع من البوح شبيه بقصيدة الهيكو وقصيدة النثر معا.. نوع من التكثيف الذي تحمله القصيدة الحديثة، كشكل لا بد منه. إنه تكثيف اللون والشكل عبر لمسات فنية استيتيقية