قراءة في ثالوث أعمال التشكيلي المغربي عباس الصلادي… قصص مصورة تحاكي الأسطورة والصوفية والسريالية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عز الدين بوركة
كيف يمكن أن يجتمع الصوفي والسريالي في عملٍ واحد؟ ماذا إن أضيف إليهما الأسطوري، أيعقل ذلك؟ لربما أسئلة كهذه وغيرها تتبادر إلى القارئ وهو يطالع عنوان هذه المقالة النقدية في أعمال فنان تشكيلي استثنائي في التاريخ التشكيلي المغربي. عباس الصلادي (1950-1992) القادم من فانتازيا مراكش العتيقة، من جامع الفنا وحكواته. سنحاول قدر الإمكان الإجابة عن الأسئلة، والتوغل في عوالم الرسم عند هذا الفنان السريالي (إن نحن أردنا تصنيفا أوليا لأعماله).
بين السريالي والصوفي تبدو فوارق عديدة لا تجعلنا نرى أي صلة وصل بينهما. غير أننا وقبل الولوج في ما اتضح لنا من علاقة وصل بينهما، لابد من الإشارة إلى أن عباس الصلادي إن تتسم أعماله بلمسات سريالية، فإنه ـ وهذا معروف- متأثر كثيرا بتلك العوالم الصوفية التي تسكن أضرحة مراكش (سبع رجال). فنلاحظ – دائما- حضورا لافتا لقباب الأضرحة السبع التي تعجّ بها مراكش الحمراء، خاصة ضريح سيدي بلعباس، الذي يحمل الصلادي اسمه كما سمّاه أبوه عند مولده تيمّنا بهذا الشيخ الصوفي. فلوحات الصلادي «حدائق غناء جميلة بألوانها الزاهية، نساء عاريات أشبه بالفرعونيات، شخوص عبارة عن أشجار نابعة من سطوح المنازل، منازل وصوامع ونساء طيور، زليج بيوت مغربية أصيلة، امرأة عارية في حضن طاووس، رجال ونساء وطيور، لوحات أشبه بالتمائم لنساء عاقرات، وهو عالم جامع الفنا الذي يوحي بالغرابة والأسطورة».
الأسطورة: المتخيّل والخيال
هنا نسأل ما المقصود بالأسطورة /الأسطوري؟ كيف لها أن تصير موتيفات/ثيمات تشكيلية؟ إن محاولة إعطاء تعريف دقيق للأسطورة يبدو مستحيلا، بسبب تعدد موضوعاتها ووظائفها، فالأسطورة عبارة عن تفسير علاقة الإنسان بالكائنات، وهذا التفسير هو أداء الإنسان في ما يشاهد حوله من حالة البداوة، فالأسطورة مصدر أفكار الأولين، وملهمة الشعر والأدب عند الجاهليين، ونلخص القول فنقول إنها الدين والتاريخ والفلسفة جميعا عند القدماء.. والأسطورة تعطي الإنسان وهْم القدرة على فهم الكون وأنه فعلا يفهم الكون. والحديث عن الأسطورة يؤدي بنا إلى الحديث عن الخرافة، لأن الأسطورة والخرافة لهما قاسم مشترك، وهو الخيال المفرد واللامعقول وما وراء الطبيعة.
الخيال هو مفتاح مهم لولوج خطوط الرسم عند الفنان التشكيلي عباس الصلادي، فاللوحة لديه عامرة بالمتخيّل الشعبي كما الذاتي النابع من مخيّلة الفنان ذاته. فتلك الأشكال العامرة بها اللوحة عنده (من نساء متكئات على بعضهن، وفوق رؤوسهن طواويس؛ نساء أشجار؛ أشجار ذات جذور عميقة في الأرض حولها طيور؛ المرأة الأمير؛ الأميرة الشجرة؛ المرأة الفضاء؛ الزليج للبيت الحريمي؛ لون مخملي لنساء شبقات مشتعلات بالرغبة؛ الحب (المرأة-الرجل)؛ الأسوار والنوافذ؛ الممرات، فضاء نسوي يحكي لبعضه ويتناجى؛ الرجل الطاووس؛ خرافة المكان وخرافة الزمان…). ما هذه الأشكال/الرسومات- إلا وحي من مخيّلته، التي يستقيها من حالات نفسية «صرع» تصيبه. كما يستلهم صلادي موضوعاته من الذاكرة الشعبية، آلياته التشكيلية في ذلك ثنائية التأرجح المتعمٌد بين ما هو ساذج (بالمفهوم الفني حسب منظر التيار دوانيي روسو الذي يرفض الانصياع لقواعد التشخيص الصارمة) وما هو سوريالي – إذ يقول الكاتب عزيز زعمون- يعتمد تلقائية الرؤى والحلم في بلورة عوالم اللوحة، مع الحرص على دقة صياغة التركيبة التشكيلية. وبذلك تفرد اللوحة لواقع آخر، واقع يرتفع بكائناته «الأنفوية»، بأنثاه اللغز، بطائره الإيزوردي، بزليجه الضارب في النصاعة، بألوانه الموغرة، بكثافة خطوطه وأحجامه، بغلوه ببذخه بوقاحته…
أقيمت ـ بعد رحيله- ندوات ودراسات عديدة حول العلاقة المتبادلة بين الصراع النفسي (كمرض) والإبداع الفني/التشكيلي.. عاش عباس الصلادي في مدينة مراكش وتجوّل كثيرا بين بيوتها العتيقة، من حيث استلهم مفرداته الصباغية /التشكيلية، واستوحى أشكاله الفانتازية /السريالية. ولج الصلادي أقسام الجامعة ليدرس الفلسفة بين مدرجاتها، إلا أنه عصامي التعلم والممارسة داخل حقل الإبداع الفني، لم يتسن له أن يدرس قواعد الرسم والطرق خلط اللون وتسطير الخطوط وتثليث الأبعاد في مدرجات مدارس الفن. لهذا نلاحظ تلك العفوية في الرسم لديه، عفوية تميّزه عن باقي الفنانين السرياليين من مجايليه أو سابقيه أو لاحقين عنه. عفوية في رسم تلك الأجساد لنساءٍ نصف عاريات. فالتجربة «التشكيلية عند الرسام العصامي الراحل عباس الصلادي موسومة بالحضور الرمزي للجسد في أبعاده الميتافيزيقية والرمزية، التي نقرأ فيها بنيات فانتازية حاكية بأصوات متعددة تقررها المفردات التعبيرية (شبه السريالية في تراكيبها) التي يوظفها، كالعصفور والمرآة والصومعة والطاووس والشمعة، وذلك وفقا لتقنية لونمائية دقيقة ومكسرة بتخطيطات غرافيكية Hachures تفرضها تقنية الرسم المختارة. فصيغة المعالجة التي يعتمدها صلادي في رسم شخوصه وأجساده، تعكس عالمه الداخلي المشحون بكثير من الصمت والتأمُّل، لكنه يظل في بوتقة انصهاره، لذلك أمست هذه الأجساد تمثل الضوء الوضّاء الذي ينير ظلام حياته إلى أن فارق الحياة..». بهذا المعنى نقول إن الجسد عنده هو فاعل متحر ومنسجم والفضاء/اللوحة، الفضاء اللامتناهي داخل أعماله.
السريالية والتصوف: الرسم والموضوع
أعمال عباس الصلادي، منغمسة كليا في التعبيرية الرمزية، كما السريالية، مما يجعل منها متعددة القراءات، لتعدد المنطلقات المدرسية التاريخية لقراءتها، وإن أعرب ذات مرة عن جهله لمدارس التشكيل، فأعماله لا تقف تترنح بين مدرسة وأخرى (التعبيرية الرمزية؛ السريالية)، إلا أنها تتحد في رؤية /موضوع، تجمع بين كل أعماله..
نعيد طرح سؤالنا الذي استهللنا به نصنا هذا، كيف يمكن أن يجتمع الصوفي والسريالي في عملٍ واحد؟
إن كانت غاية الصوفي بلوغ الأعلى/السماوي، فأعمال الصلادي – دائما- تمدّ أعناقها إلى أعلى كما أذرعها، دائما ناظرة إلى السماء، وإن كانت غاية الصوفي التوحد والطبيعة، فأعمال الفنان في غالبيتها، تعجّ بحضور الرموز الطبيعية (الحيوانات؛ الأشجار؛ النباتات..)، كما نلاحظ نساءً تتفرع منهن أشجار، أو أشجار تتفرع منها نساء، أو كما في أحد أعماله الحِبْرية (الحبر الصيني) على الورق نبصر رسما لعملية التحام (تعانق) بين أفعى (صاعدة من الأرض) وأسد ورجل وامرأة بجانبه وفي خلفية الرسم من الجهة اليمنى نرى وجودا لرسمٍ لشجيرة غريبة. هكذا يحاول الصلادي الترميز إلى الصوفي عبر رسومه السريالية (التعبيرية أحيانا). كأني به يحاول بالرسم قول ما لا يقال، انطلاقا من اللامعقول واللامعروف. «فالدعوى السريالية الأولى كما يقول أدونيس في كتابه «التصوف والسريالية»- هي أنّها حركة لقول ما لم يُقَل، أو ما لا يُقال. ومدار الصوفية، هو اللامقول، اللامرئي، اللامعروف.
والهدف الأخير يضيف أدونيس- الذي يسعى إليه الصوفي هو أنْ يتماهى مع هذا الغيب، أي المطلق. ويهدف السريالي أن يحقق الأمر نفسه. وليس هنا هوية هذا المطلق، بل حركة التماهي معه، والطرق التي تؤدي إلى ذلك، سواءً كان هذا المطلق الله، أو العقل، أو المادة نفسها، أو الفكر أو الروح… إلخ. هناك في كل الحالات العودة إلى أصل الخلق، أيّا كان هذا الأصل. وهي عودة تفرضُ مغايرةَ العائد للأصل، وتماهٍيه معه في آن. الأصل، بعبارة ثانية، يبقى ذاته، في ما يتجلى عبر مخلوقاته، وفي ما تعود مخلوقاته إليه».
وهذا هو الواضح في مرسومات عباس الصلادي، حيث تصير الشجرة امرأة، والمرأة شجرة، والرجل بأيادٍ من غصن وأرجل حيوان غرائبي أرجله هو بدوره غصن لشجرة. (الأمر واضح في إحدى لوحاته المرسومة سنة 1988 عبر تقنية Mixte). كما تلك المرأة التي ينبت لها جناح من ورق شجر، أو رجال يحلقون بأجنحة. ما يمكن الجزم به هو أن الصلادي بفعل دراسته وسكنه وقربه من الزوايا الصوفية كان متطلعا بامتياز لما جاء على لسان أدونيس، كما أشرنا له بالذكر، فجعل منه رموزا يعمّر بها فضاءات لوحاته، ويرسم بها أشكاله /شخوصه السريالية الغرائبية والعجائبية.
ويمكننا القول إن أعمال عباس الصلادي، قصص قصيرة مصوّرة، تحكي عن عوالم متخيّلة تسكن أحلام الفنان، قصص شبيهة بتلك التي جاءت بها «ألف ليلة وليلة»، إلا أنها حكي متغاير، حكي بالألوان والحبر. حكي على الورق. فالصلادي يعيش في واقع أعماله، حيث يلوّن ويرسم عالمه الخاص، عالمه الذي يتخيّله بأجسادٍ عارية متحررة تماما من واقعها. متطلعة إلى الأعلى. أعمال عباس الصلادي بهذا المعنى صوفية – حداثية أكثر منها سريالية أو أسطورية.
المصدر: القدس العربي