قراءة في كتاب «لن تتكلم لغتي» لعبد الفتاح كيليطو: وعي الأنا وإدراك حدودها في مواجهة الآخر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*رامي ابو شهاب

المصدر / القدس العربي

في كتاب الناقد عبد الفتاح كيليطو «لن تتكلم لغتي» تبرز اللغة بوصفها مشكلاً بحثياً يتخلل سياقات محفوفة بالأسئلة الثقافية، التي تشمل وعي الأنا، وإدراك حدودها في مواجهة الآخر، بيد أن مقاربة الكتاب تتوخى مسلكاً معكوسا لمنهجيته الساعية نحو بلورة رسالة ما، فمؤلف الكتاب يمارس مقاربة مخاتلة تبدأ من عنوان لافت ومثير؛ بهدف إغواء القارئ… من مبدأ التّساؤل عنن المخاطب بهذا العنوان، ومن المتكلم الذي يدعو الآخر لعدم تكلم لغته، وأي لغة يقصد؟
في قراءتي للكتاب بحثت عن تدابير معينة للخروج بخلاص فكري، يتصل بهذه المعضلة التي تنهض على نفي الآخر من اللغة، ومنعه من الاستحواذ عليها، ولكن هل تستحق اللغة هذا الفعل؟ عند البحث في مراجعات الكتاب وجدت أن معظم قرّاء الكتاب لم يتيقنوا من مسالك الكتاب ومكامنه، حيث تسرب القلق في تحديد الهدف منه، أو هكذا تراءى لي، ولعل هذا مؤشر كي لا أراهن على مردود التوقع من قراءتي، ولا سيما لكتاب يحمل عنواناً يؤسس النفي فيه مؤشراً لقطيعة معرفية مع الآخر (الذي يحاول أن يستحوذ على لغتي) أو لغتك، غير أنها في كل الأحوال «لغة الأنا» بغض النظر عن تمركزها، هكذا تتجلى اللغة ملكية خاصة بتشكيل «فردي» في المقام الأول، وهي في الآن ذاته ترتهن لتشكيل جمعي يتكوّن من تبلور عدد من الذوات في بيئة ما.
يلاحظ أن المحور الأخير من الكتاب يحمل عنوان الكتاب «لا تتكلم لغتي.. ولن تتكلمها»، ومن أجل تحقيق فاعلية خاصية اللقاء المعرفي مع مقولة الكتاب، ينبغي قراءة الكتاب بنسق معكوس، أي أن القراءة يجب أن تكون من المحور الأخير باتجاه المحاور الأولى، أي على عكس ما يتوقع مؤلف الكتاب؛ وذلك تجنباً لأشراك الكتابة حيث يمارس القارئ حيلته لمواجهة تضليل النص، أو المؤلف. وتبعاً لذلك، فإنه على غير ما هو مألوف لدى بعض الكتاب والناقدين- فإن عبارة «مما لاشك فيه» لن تكون مجدية- ولهذا ألجأ إلى عبارة «مع كثير من الشك والريبة» ينهض محور «لن تتكلم لغتي» على إحالة أو إدانة «للغريب» الذي يتكلم لغتي، التّكلم لا يقصد به نسق متعلم اللغة، بما فيه هذا المسلك من التردد والخجل الذي يرحب به من صاحب اللغة، الذي يدرك أن لغته ما زالت تتفوق، كونها تمثل تحدياً للطارئ عليها، فلغتي في هذا المستوى من التلقي ما زالت في مساحة الاستحواذ الذاتي، ولكن تبرز المعضلة حين يتمكن الآخر من لغتي، وهنا نستشعر خطراً ما، ولهذا نسارع بإطلاق مشاعر الريبة، هذا بالتحديد ما فعله الصينيون حين استجوبا أمريكيين يتواصلان مع روسي بالصينية بوصفها وسيطاً تواصلياً، مما أصاب الصينيين بقلق أمني، مع أن منطق الأمور ينبغي أن يكون على العكس من ذلك. إن اللغة بحد ذاتها لا تدرك، ولا تعي ذاتها إلا بما نشيّده (نحن) أصحاب اللغة من آراء وصراعات فيما يتعلق بموضع اللغة، ودورها، فاللغة كائن لصيق بنا، ولكنها في معظم الأحيان قد تتفوق علينا، ونادراً ما نتفوق عليها، ربما نتخلى عنها، أو ربما تتخلى عنا، هذا ما أشار له كيليطو عن رجل حاول تعلم لغة، فكلما هزمته هزمها، وكلما هزمها هزمته. ومن أجل الوفاء بمنهجية المقاربة، أعود لمقدمة الكتاب، لأتساءل، ماذا يريد أن يقول كيليطو حين يبدأ كتابه بذكر المنفلوطي، الذي تعكس سحنته وملابسه كائناً شرقياً، لا لبس فيه، إذ هو يطابق شكلاً لغته التي يكتب بها، ولاسيما نسقها الموروث، غير أن هذه اللغة تطبعت بقصص، وحكايات، وقيم أوروبية غريبة عن بيئة المنفلوطي، هل يمكن أن يمارس الرجل خداعاً بحق ذاته، أم هو إعجاب مستتر بالأوروبي حيث مهابة الاعتراف، أو الخجل.
إن منظورنا لذاتنا، ولغتنا بات رهين النظير المتفوق، ولهذا حين حاول كيليطو أن يقدم محاضرة عن المقامات حار في كيفية تقديمها للمتلقي، ولا سيما الأوروبي، فوجد أن أفضل الحلول أن يضعها في مواجهة قصص أوروبية، ومنها الرواية «التشردية». هذا النسق نراه لدى بعض العرب والأوروبيين الذين يثمنون بعض الأعمال الأدبية العربية في ضوء ما يناظرها من نصوص الغربي، ومنها حي بن يقظان ونظيرها روبنسون كروزو، ورسالة التوابع والزوابع مقابل الكوميديا الإلهية لدانتي، وغير ذلك من الأعمال، مع التنويه بأسبقية النصوص العربية، ولكن هل يمكن أن نعدّ هذا المسلك إشارة إلى مشكلة حضارية تصل إلى أن تتحول إلى أزمة؟ فالثقافة العربية، أو حتى أي كاتب عربي لا يمكن أن يعترف به إلا حين تترجم أعماله، بل ثمة مؤلفون يكتبون نصوصهم، وهم يضعون في أذهانهم عملية نقل أعمالهم إلى لغة أخرى- ومع كثير من الشك- فإن كيليطو يمتد في رحلة الوعي بقيمنا، وبمردودنا الثقافي، والحكم عليه، ومع ذلك، فإنه بريء من أي محاولة، كما يحاول أن يبرئ من يتحدث عنهم، لأن أي محاولة للحكم تحمل في داخلها فناءها، فما أحكام بعض النقاد الأوروبيين على أدبنا العربي بالملل، ما هو إلا تصور ينطلق من تجربة خاصة، ولكن إذا كان غير ذلك، فلماذا حارب الجاحظ هذا الملل باستطراداته؟
إن حضور لغتين، أو التمكن من لغتين، كان مشكلاً وتساؤلاً انطوى عليه الكتاب، ولهذا نعود إلى الجاحظ الذي يرى أن معرفة لغتين يعني أن تظلم إحداهما الأخرى، هذا الفهم يعني أن العرب لقرون خلت لم يعنوا بآداب الآخر، ولسانه الذي لم يكن في مجال الاعتراف، فلا عناية بنقل الشعر إلى لغات أخرى نظراً لاستعلاء العربية على سائر اللغات، وهو موقف ينطوي على معنى قصور الترجمة عن اكتناه بلاغة الشعر العربي، ورونقه، بيد أن ترجمة الفلسفة يبدو مشروعاً، وهكذا نخرج بموقف ينهض على أن الوعي العربي كان متمركزا حول ذاته، إذ كان لا يحفل بتلك اللقاءات، ولا حتى تصور الذات في عيون الآخر، فالاكتمال كان مركز الحدث، ووعيه، فأدبنا يتعإلى على كل ما حوله، وبتقدم الزمن انعكس الأمر، فأصبح الأدب العربي تابعاً، بل مستتراً في ظلال الآخرين، بل أضحى منشغلاً بالاستجابة لقيم الآخر.
الكتاب يزخر بمحطات تستوجب التفكّر بمعنى اللقاء مع الآخر، فمن الجاحظ الذي ينطلق من وعيه بتعالي اللغة العربية، وأدبها على آداب الأمم الأخرى، إلى ابن رشد الذي عنى بثقافة الآخر دون لغته، ولهذا قرأ الفلسفة اليونانية، بل شرحها، ولكن عبر نص وسيط، فهل كانت اللغة عائقاً للتواصل بين ثقافتين؟ الدلائل تشير إلى أن أرسطو اتخذ قيمة، ومدى متقدماً عبر شروحات ابن رشد خاصة لكتاب «ما وراء الطبيعة»، بيد أن هذا لم يستقم عندما شرح الفيلسوف المسلم كتاب «فن الشعر» لأرسطو، فهو قد جعل الكوميديا هجاءً، والتراجيديا مديحاً، وهذا بأثر من الترجمة الرديئة لمتي بن يونس، أو ربما بوعي مقصود للمترجم، وهكذا وجد بعض المؤرخين أن هذا الخطأ حال دون نهضة العرب التي كان يمكن لها أن تسبق نهضة الغرب، غير أن هذا لا يمكن التعويل عليه، علاوة على ما تسبب به هذا الخطأ من فوائد للأدب العربي، في ما يتعلق بالمحافظة على خصوصيته وهويته. إن عدم احتفاء القدماء بالترجمة يبدو موقفاً واضحاً، بل إن هنالك من جعل نصه غير قابل للترجمة، كما يقول كيليطو، وكأن هناك رغبة في التعالي باللغة حيث يعجز الآخرون عن إدراكها، وهذا يقرأ في عصرنا بسياق مغاير، حيث تبدو صعوبة اللغة العربية نقيصة ومذمّة، هذا إن اتفقنا على مقولة الصعوبة. اللغة عينها كانت مدخلاً لمقاربة ابن بطوطة في رحلته لمفارقة السكون، غير أنها لا تكتمل من دون أن تصحبها شهوة الاقتراب من السلطان، والانغماس في الحياة وحيوتها وحركتها، غير أن تقدير وتكريم ابن بطوطة غالباً ما كان يقع لدى سلاطين دول لا تزدهر العربية فيها، ولعل التقدير كان للغة الرجل، وكأن احتفاء الآخر بلغتنا مؤشر على شيء ما، ربما كان تقديراً لثقافة مهيمنة، ولكن بمنظورنا المعاصر يبدو الأمر، وقد أصبح معكوساً، وهذا ما يأتي عليه كيليطو حين يتخيل لو أن ابن بطوطة يعيش في عصرنا هذا، لكان قد يمم شطر أوروبا مولياً لها عناية فائقة، فهي التي أعادت اكتشافه بعد أن أضاعه أصحاب العربية.
مقابل رحلات ابن بطوطة نحو الهند والصين، نجد رحلة محمد الصّفار نحو فرنسا قادماً من المغرب العربي، وهي رحلات شبيهة برحلة رفاعة الطهطاوي، غير أنها لم تتمخض عن دعوة للإصلاح، إنما كانت رحلة وصفية مشوبة بشيء من الإعجاب بالنموذج الغربي الفرنسي، ولكن على حذر، حيث يبقى المنظور الديني والأخلاقي ضاغطاً على آراء الرجل، ولكن يلاحظ إعجاب الصفار بالصورة كما كان من سلفه ابن بطوطة، الذي كان معجباً هو الآخر بالتماثيل والتصوير لدى الصينيين، وهنا نقرأ أن الآخر يحفل بتجسيد الأشياء، ونفخ الحياة فيها، في حين أن العرب يتمترسون خلف لغة مجردة رمزية، ولكن ما هو أهم من ذلك ما لوحظ من عناية الفرنسيين بالمكتبات، واقتناء الكتب على اختلاف لغاتها، ومنها العربية، وهنا نرى ظمأ الغرب للمعرفة، والاكتشاف من أجل الهيمنة، ولعل أولى استراتيجيات إحكام السيطرة على الأشياء، فعل الإدراك الذي ينتج من تسمية الأشياء الجديدة، ولهذا يقول كيليطو في معرض تحليله لمسلك تسمية الأشياء « إن القدرة على التسمية تعادل الهيمنة وتعني السيطرة على العالم» (ص75).
وتبقى اللغة في الكتاب مصدراً للدهشة، كما حصل مع أحمد فارس الشدياق الذي كان يظن أن شعره ولغته قادران على أن يحققا له مجداً، وحظوة لدى الآخر، فهو كان ينطلق من تصور غلب على العقلية العربية، بأن الشعر والمديح قادران على أن يفتحا أبواب الآخر والحظوة لديه، ولكن قصائد الشدياق ومديحه لملوك أوروبا لم تجلب سوى خيبة أمل لمنشئها، ففكتوريا ملكة إنكلترا كافأت الشاعر برسالة شكر، في حين أن نابليون لم يكلف نفسه عناء الالتفات للقصائد المرسلة له، هنا تبدو اللغة، وتقاليد الشعر العربي شيئاً مُعرضاً عنه، إذ لا يعتني بها، ولا تلقى ذلك الترحاب، بل ان تقاليد الشعر العربي تعرضت للنبذ والإقصاء لكونها غير ملائمة لسياقات ذلك العصر، أو للعقلية الأوروبية التي تحكم سيطرتها على فضاء المعرفة، فهي لا تحفل بما ينطوي عليه الشعر العربي من جماليات بلاغية. وكأن آراء الجاحظ قد أصابها العطب، وانقلبت الأحوال، حيث لم تعد اللغة، ولا الشعر العربي شيئاً متعالياً، إنما على النقيض من ذلك باتت شيئاً غير مرئي.
نعود مرة أخرى إلى المحور الأخير الذي حمل عنوان «لا تتكلم لغتي.. ولن تتكلمها»، وفيه ننطلق من النتيجة التي توصلنا لها، ولاسيما من حيث الاحتفاء بلغتنا بوصفها ملاذاً، يقينا فقدان ميزة الاختلاف، إن عدم معرفة لغتي، يحول دون التواصل، وهو ما يستوجب القطيعة، ولكن حين تدرك لغتي، وتمتلكها، فأنت تتحول إلى مصدر تهديد، وقلق، هذا ما عبرت عنه قصة يوردها كيليطو في كتابه، تتحدث عن رجل إيطالي يريد أن يحاور امرأة انكليزية، فيطلب محادثتها بلغتها الإنكليزية، ولكن تجيب المرأة برغبتها التحدث بالإيطالية التي تتقنها بطلاقة، بل وقادرة على التحدث بلهجة البندقية، هنا ينشأ في وعي الرجل الإيطالي قلق من سلبت لغته، وعلى أرضه، وهنا نتساءل، لماذا لا نقبل بأن يستلب الآخرون تميزنا اللغوي؟ هنا تتجلى آراء غير بريئة، ولعلها تبدو بلا مردود معرفي، أو نسق بيداغوجي، غير أنها تبقى أسئلة لا نلتفت لها في العادة، إنما نمارسها أفعالاً، وفي ضوئها نستطيع أن نكتنه ماهيتنا، وهي سلوكيات نمارسها باعتبارها جزءا من طقوسنا اللغوية المميزة، خاصة في مراحل تبدو ذاتنا اللغوية عرضة للاستلاب والتحول، وهنا نحتاج إلى لي أعناق مطيانا نحو وجهات جديدة، نبحث فيها عن هويتنا التي قضمت هنا، وتشظت هناك، ولكن في كل الأحوال فنحن لا نملك في هذه الرحلة سوى شيء واحد قادر على أن نبقى من خلاله، وأعني لغتنا، أو لغتي، لذلك «لا تتكلم لغتي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى