قصيدة النثر في مجموعة «جسد في مقهى شرقي»… ثنائيات متضادة

هناوي سعدون

أعلنت قصيدة النثر ولادتها كجنس أدبي منذ عقود.. وأصبحت اليوم جنسا لا يجارى، تميزا وشيوعا بسبب ما تحفل به من طاقات إبداعية تشتغل على المستوى الدلالي، متجاوزة صوتية قصيدة العمود وتناسقية قصيدة التفعيلة.
وما استطالة النص وامتداده على شكل قصيدة نثر مطولة إلا نمط شعري شكَّل في الآونة الأخيرة ظاهرة فنية. وهذه القصيدة تمتاح من الواقع دلالاتها وتستمد من الانزياح شاعريتها والسمة الأساس فيها الطول الممتد مع هيمنة التضاد في الثنائيات اللفظية.
والمعتاد في قصيدة النثر المطولة أنها تندرج تحت عنوان رئيس واحد وتنزاح دلالاتها عن المعتاد لتمتد في فضاء المعاني اللامتطابقة والألفاظ المتضادة في سطور لا ينتظمها تشكيل نصي، بل هي تجمع بين الأقصوصة والخاطرة والسيرة والمذكرة والحوار والمشهد، لتأتلف هذه الأجناس كلها تحت لواء قصيدة النثر المطولة، التي شعارها الفوضى ووسيلتها التمرد والتفكيك وبغيتها التحرر والانفلات.
وتتخذ قصيدة النثر عند الشاعر زهير بهنام بردى في مجموعته «جسد في مقهى شرقي» الصادرة عن دار أمل الجديدة في سوريا عام 2016 شكل مطولة فيها الجسد هو المهيمن الدلالي الذي ينزاح نحو آفاق رحبة ومتسعة من التأويل.
وتحمل قصيدته بعض الملامح البودليرية التي تجعل من اللاشيء شيئا، وهي طافحة بطاقات دلالية هائلة تتخذ من ثيمة الجسد مرتعا لاشتغالاتها، لا بالوصف المكاني المادي والتجسد الواقعي، بل بالهيام الروحي الذي يتجاوز حيز الوجود وفي الوقت نفسه يرفض الانعتاق للعدم.
ومن الملامح البودليرية عند زهير بهنام، التمرد على الجسد كمعطى نصي عبر فتح فضاءات من الامتداد الكتابي، الذي لا ينفصل فيه نص عن نص بعنوان عتباتي، كما هو معتاد في نصوص قصيدة النثر، بل يكون الفضاء الكتابي منفتحا على النصوص بعضها مع بعض لتكون بدورها سلسلة متوالدة من عتبة استهلالية واحدة «أبحث عن الألم كي أستطيع أن أبكي».
وما بين الألم والبكاء والبحث والاستطاعة تتلاشى أبعاد الجسد في النص لتكون مطولة تقبع في عمق التاريخ وتمتد إلى راهنية الحاضر… عبر سلسلة ثنائيات دلالية متضادة منها: البصر والعمى/ اليباس والريعان/ الستر والعري/ الفحولة والأنوثة/ الجزء والكل/ الحياة والموت .
ويتحول الجسد من معطى نصي إلى معطى مادي، مرة ككيان أنثوي وأخرى ككيان خائب وضائع ومنهار، وهو أيضا نار وأفعى وعري وموت:
«أتعرى خلفها من سخونة مشهد خروج الميت الذي هو أنا وأكرر الخروج إلى نصوصي عاريا».
والجسد عنده يناظر الوجود والعدم فهو السواد والأنين والضجيج والعزلة والارتعاش، ولذلك لا يكون له بد من الهروب إلى اللافضاء لعله يعثر على ما ضاع من ذلك الجسد المغلوب، ولا غرو أن يكون المستهدف من جراء ذلك هو العالم المرئي وما فيه من القوى المتخيلة والخفية يقول: «دحرجت جسدي إلي بإهمال وخرجت من نفسي تحت رذاذ خيوط مثيرة من ثيابي وتسحب نفسها من جثة جنوني الملقاة فوق رصيف يشمئز من ماء يسمعني».
ويؤدي العنصر المكاني في قصيدة النثر المطولة دوراً مركزياً ممثلاً بالجسد الذي فيه ينفتح الفضاء ويتلاشى الحيز ليغدو الكلام خاماً يزخرفه الانزياح، فيستطيل ويضيع في متاهات الهم الوجودي فيسائل الشاعر جسده المتشظي في الزمان والضائع في المكان قائلا: «أيها الوقت، يا جسدي أيامي أين تذهب؟ وأنت لا تشيخ؟».
ومن الملامح البودليرية الأخرى هو اتخاذ الرسم أساسا لبناء الجملة الشعرية، من خلال تأمل المرئيات وضبطها نصيا لتفنى الكتابة في النص، وليتماهى النص نفسه في الكتابة. إنه فناء المكتوب في تشظي الكاتب، وهذا توجه سريالي طالما تميزت به قصيدة النثر، لتغدو كزخرفة شكلية إزاء معطيات مادية واقعية. ولأن الكلام يخذل الجسد فلا يجد له حيزا في الوجود، لذا يظل هذا الجسد معلقا بين الوجود واللاوجود:
«وأدق الباب على الكلام وضريحي بيدي أسير به على الأرض وأسقيه موت الذين يمرون قرب دهشته «. ولا تكتمل الرؤية الشعرية إلا بعد أن ترسم الذات الشاعرة أبعادها وتحدد لها أطراً تتحرك عبرها جيئة وذهابا، فتكون متجلية في شكل هيام روحي لا يدع الجسد بسلام لأجل أن يلقي به في متاهة من الكلمات وفوضى من الأفكار ودوامة من المشاعر المتضادة، ليجد حاله في أتون فضاء لا ظل له ولا أساس.
ولأن قصيدة النثر المطولة تتخذ من فضاء الوجود مرتعا لزخرفة العدم بالأفكار لتعطي للواقع بعدا خياليا وسرياليا، فلربما كان هذا هو السبب الذي أشاح بقصيدة النثر عند زهير بهنام عن أن تكون مجرد قصيدة نثر مطولة. لتغادر من ذلك الشكل إلى شكل أقرب، وأعني به قصيدة النثر التي أسميها اللوحة كنص زخرفي يمتد على شكل متاهة روحية تتخندق داخل جسد مشتت ومهزوز جامد وعائم. ولهذا نجد الذات الشاعرة متأرجحة بين الانفلات من الوجود والانحباس في العدم حيث: «السماء فكرة متمردة والأرض نص انزياح».
وتفيض النصوص النثرية بشاعرية الانزياح لتحلِّق في أجواء بعيدة تحكي قصة جسد أغوته أنفاسه بالشهوة فكانت الشقوة بانتظاره، لتجتث أحلامه وتسحق آماله وتجعله يلهث وراء حب كان سببا في هلاكه، وهذا ما دفع بالجسد إلى أن يخاتل جراحاته ويداري احتضاراته مراوغا بالحرمان تارة وبالاكتواء أخرى. ويتحول حزنه مسرةً ويومه عدما ومسيرته تعثرا وألفته اغترابا، وما ذلك إلا لأن الواقع المرّ قد أثمله فما عاد يرى فيه إلا ما هو مشوه وقبيح. ولم يبق له من أمل إلا بالأنوثة التي رأى فيها الولادة والخصب والنقاء فهي التي تظل تمنحه طاقة الإصرار على الحياة وتدفعه من ثم نحو التمرد لعله يرفض الاستسلام لجسده أو الإذعان له بطواعية:
وأنت تقفزين وتنطين مثل الأرنب في عشب جسدي
هاتي طراوة شفتيك وأنقذيني من السباحة في الورقة
أنا تدربت مذ زمن مضى على السباحة في نداوة شفتيك
فإذا كان جسده هو اليباس والخواء فإن الأنوثة هي النداوة والامتلاء. إنها الملهمة التي تمده بالزاد الذي يبحث عنه لأجل أن يواصل الحياة وهي قرينة البحر والماء والانتشاء وهي الامتلاء والفيض والريعان:
تجلسين قرب البحر تعبثين بمائه تلتقطين الحصى من
قعره
تقذفيني بقشعريرة وانتشاء تذكرني بما قذفه جسدي
وهو حي من قشعريرة وانتشاء
إن الجسد الأنثوي وحده القادر على مدِّ الآخر بالحياة وبلا حدود وما ذلك إلا لأنه الأصل والأساس: «بأكوانه المبهجة أسبح وبأبجديته المرنة أقرأ كتاب جسد قاراته تلتم بإغراء تحت فمي وكأنه كروان يتبختر بين يدي ولتكن ما أتهجاه من أولى الأبجديات بعد أن أخرج من الجهد هديلكِ عود وكمنجة وأرغن وأوتار وقيثارة».
وفي الأنثى تختزل قصة الوجود والخلق فهي الإلهة وهي الصانعة وهي الملهمة والمعبودة، وهي وحدها التي حولت جسده من الهاوية وأنقذته من الهلاك.
وما كان لقصيدة النثر أن تغدو لوحة إلا بسبب هذا التعارض الضدي بين المكان والمكين، ذلك التعارض الذي تولَّد منه صراع فكري انعكس نصيا في شكل تضاد لفظي وتصويري، جاعلا من القصيدة أقصوصة تحكي معاناة ذاتٍ لا تعرف لها قرارا ولذلك يمتد بها الإحساس المتوقد شاعرية إلى ما لا حدود كنهاية مفتوحة على اللاانتهاء.
وتتحول الجمل الشعرية إلى لوحات فنية هي جزء من لوحة كبيرة ترسم تفاصيل جسد هو إيقونة التهالك في فضاء العدم :
جسدي مبعثر ووقتي قصير واستراحتي لا حد لها
فامنحوني الأصابع أعيروني بعض شموع حياتكم
كل هذا لأمنح جسدي فرصة أخيرة وأتجمع ثانية
وبذلك تتكامل مثالية الواقع كلوحة خيالية يستريح الجسد في ظلها من غلوائه ويزيح عنه أحماله التي أرهقت كاهله ليكون المنال جسدا في مقهى شرقي حيث الشعر هو الانتشاء والتجدد والرفض المتمرد على الموت.
وبذلك تغدو قصيدة النثر «اللوحة» طرازا للتعبير الذي به تتحول الفوضى والعبثية والدعابة إلى منطق في حين يعجز التناسق والتطابق والإيقاع عن أن يكون له مثل ذلك وهذه هي المفارقة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى