«كابلات» إسرائيلية تمنعهم من وصول «جنة بريطانيا»… «أندلس القطارات»: شعر ومسرح في «غابة» كاليه الفرنسية للاجئين

الجسرة الثقافية الالكترونية
حسام الدين محمد
كنّا، في قطار كاليه ـ بلجيكا السريع، نتفكّر خائفين كيف سنقابل لاجئي بلداننا، الذين لا همّ رئيسياً لديهم سوى مغادرة المخيم سيئ الصيت. خمس صبايا ورجل واحد من بلدان نُكبت بطرق متشابهة وتحوّلت إلى مغناطيس جاذب ونابذ باتجاهين: الأول لشبّان قرّروا الخروج من الدنيا إلى الجنّة، عبر طريق «الجهاد» السريع، والثاني لعائلات تهرب بأرواحها من «جحيم» البراميل المتفجرة والقصف الجوّي والبرّي والبحري لأنظمة مستفحلة في غلوائها… وكذلك من طوبى «الدولة الإسلامية» التي تريد إحلال استبداد «مدنّس» باستبداد «مقدّس»!
كنت ضمن الفريق المدعو، مع فاطمة حاجي، الشاعرة الصومالية، وشبيبي شاه، الروائية والشاعرة الأفغانية، وسلام كيدان، الشاعرة الإريترية، وفردوس علي، كاتبة المسرحية الصومالية، وكنّا، قبل وخلال رحلة القطار، مؤرقين من المواجهة المقبلة: بماذا يهمّ الشعر أو المسرح أو الكتب والثقافة عموماً في زمن التغريبة العالمية، وهل سينظر اللاجئون لنا نظرتهم إلى أشخاص قادمين من الفضاء؟ هل نحن حقّاً نعبّر عنهم، وهل نستطيع أن نستوعب آلامهم، وهل يمكن للشعر أن يصلنا بهم أم يبعدنا عنهم.
كانت رفقتي السيئة لبعض الشعراء سبباً دائماً في محاولاتي الدائمة للإقلاع عنه، وكان الابتعاد عن «الغاوين» منهم، والمستعارين، وعن أهواء النبوّة المزيّفة، والأنانية الفائقة، والإحساس النخبوي بالتفوق على البشر، دوافع قرّت في نفسي، يضاف إلى ذلك تلك الحيرة الدائمة لديّ من المآل المؤلم الذي صار إليه الشعر، وكان غريباً بالنسبة لي أن ذلك لم يكن أمراً باعثاً على الأرق والتفكر والتساؤل، كما حصل مع كافة شؤون الفكر العربي والإسلامي الأخرى.
وكانت كتب مثل «المرايا المحدبة» و«المرايا المقعرة» لعبد العزيز حمودة، و«ثياب الإمبراطور« لفوزي كريم، قد تلمّست بعضاً من الأفكار الكثيرة التي تشغلني في ما يتعلّق بالشعر العربي. لكنّ أكثر ما كان يشغلني في طريقي للقاء باللاجئين السوريين – وقد توقع القادمون معي أن ألتقي الكثيرين منهم ـ هو طريقة التواصل معهم فقد كنت أحسّ بلكنتي وثيابي وشخصيتي التي تركّبت من رقع الأيّام والأحوال والجغرافيات، التي عبرتها كأنني شخص غريب.
الرحلة كانت من تنظيم «كتاب مهاجرون» الذي تديره جنيفر لانغر، وبدعوة من منظمة تسمي نفسها «كتب في الغابة»، تديرها امرأة تشبه قدّيسة تدعى ماري، وتعاونها مجموعة من المتطوّعين أغلبهم بريطانيون فيتكفّلون بشؤون ترجمة وتعليم وتدريب اللاجئين ووصلهم بشؤون الثقافة في مكان لا يعوّل كثيراً على هذه الشؤون.
قالت لي جنيفر إن «الغابة» تشبه مهرجان غلاستنبري الموسيقي ولكن الحقيقة أنها مخيم لاجئين في فرنسا القرن الواحد والعشرين. والد جنيفر هرب من مخيم نازي للاجئين إلى بريطانيا، ولكنه وقتها، كما تقول، لم ينم كهؤلاء اللاجئين على الأرض في خيم.
في الحافلة التي نقلتنا إلى محطة القطار شبه الفارغة شاهدنا الشاحنات الضخمة والسيارات الخاصة تنتظر دورها لعبور نفق كاليه نحو بريطانيا، وحين وصلنا أخذت أجرّ حقيبتين كبيرتين محملتين ببطانيات نسجتها امرأة خيّرة إنكليزية أرادت أن تعبّر عن تعاطفها مع الأطفال السوريين، وبكتب فكرية وشعر ورواية وملابس وألعاب. ذكّرني مشهد المخيّم بمكان أسوأ منه بكثير في أيّام فتوّتي بدمشق، كان يدعى «الزفتية» وكان يؤوي لاجئين من الوطن السوري نفسه، وكانت مجاري الماء والوسخ والبول تجري بين المنازل، أما في «الغابة» فقد خصصت الحكومة الفرنسية قرابة عشرة كابينات يقضي فيها عشرة آلاف لاجئ ولاجئة حاجاتهم، وتوحي ببؤس التعامل مع هؤلاء.
لكنّ ما ميّز «كاليه» كان الخيم التي هجرها أصحابها والمعلبات والأوساخ التي يتم حرقها فتنتشر رائحة الحريق عبر المخيم وتعطيه إحدى بصماته المميزة، التي كانت إحداها أعلام الدول، من أفغانستان والصومال والسودان وحتى الكويت، التي رفع سكانها أيضاً راية «أبي الفضل العباس»، وهي راية قاسية المعاني في العراق وسوريا، على عكس ما توحيه من لجوء إلى رمز دينيّ لمجموعة هاربة في «كاليه». ذهبت للاطمئنان على «شعبي» فوجدت شباناً من أرياف حمص وحماه ودمشق وإدلب، فيما استقلّ الدرعاويون بمكان يخصهم في المخيم، كما لو أنهم يعزلون ألمهم الذي ابتدأت به الثورة السورية ولم تنته.
من أخبرتهم عن الاجتماع فضّلوا تجريب حظوظهم بالعبور إلى الفردوس البريطاني، وهي حظوظ تقلّ يوماً بعد يوم. أحدهم كان قد جرح يده جرحاً بليغاً بـ»الكابل الإسرائيلي». سألته:
«لماذا تريدون الذهاب إلى بريطانيا؟».
«وصلنا إلى هنا ونريد أن نكمل» قال أحدهم.
تابع زميل له واقف معه: «الممنوع مرغوب».
حدثوني عن الطرق التي يتبعونها لعبور العدد الكبير من الأسلاك الشائكة… «الكابل الإسرائيلي» سمّاه أحدهم ولم أعرف لماذا. تكلموا عن الصعوبات الجمة التي تواجههم. واحدهم حاول عشرات المرات ولمدة ستة شهور ولم يفقد الأمل بعد، رغم أنه لا يدري بماذا يأمل أصلاً. أحدهم اعترف أن فرنسا تقدّم تسهيلات كبيرة للاجئين، ولكنه مع ذلك كان مصرا على عبور المسافة الخيالية التي قد لا توصله إلى شيء. التقيت بلاجئين أفغانيين قادمين من بريطانيا. «لماذا؟» سألتهما. «اشتقت لعائلتي. أنا ذاهب إلى أفغانستان!». وتضاحك زميله: «أعطه ثلاثة أشهر وسيموت!»، مشيرا إلى الأخطار الأمنية التي تكتنف المنطقة التي سيعود إليها.
في المخيم وجدت خيمة كبيرة حوّلها اللاجئون إلى مسجد «أبو بكر الصديق»، كما كانت هناك كنيسة مركزية كبيرة، وكنيسة أصغر من أعمدة الخشب للإريتريين. الناس في هذه الأماكن أحوج ما أمكن للتمسك بدين وإله يستجيب لدعواتهم ويخفف عنهم العذابات.
الحضور كان من كل الجنسيات وكان التحدّي غريباً لأن كل واحد منا سيحاول الوصول إلى جمهوره، وربما يغامر، بلغة لا يفهمها الجمهور، أن يصل إلى أمداء لا تفصلها اللغات.
ألقت فردوس علي مسرحيتها القصيرة باللغتين، الصومالية والإنكليزية، وتعاونت مع فاطمة حاجي على أداء مذهل لعمل يتناول أحداثاً نعيشها كل يوم وتحصل في الصومال، كما تحصل في سوريا والعراق وإريتريا.
شبيبي الأفغانية وجدت جمهورا ممتعاً من أعمار مختلفة وتمتعت بتوقيع كتبها لهم، أما سلام الإريترية فكانت تجد أقرانها الإريتريين بسهولة كما لو كانت جيناتهم مرسومة على وجوههم.
التقيت فرقة من اللاجئين تعزف الموسيقى، وكان نجمها لا يقل وسامة وأناقة بسيطة عن أبطال الأفلام الهندية، وقد شارك أمين الله شريفي، من مزار شريف، في الاستماع، بينما قرأ يعقوب السوداني قصائد ألّفها للمناسبة، وكذلك فعل شاب سوداني آخر تولّيت ترجمة قصيدته وتأويلها بعض الشيء لترضي الجمهور العامّ.
كتبت قصيدتين مرحتين في الطريق بناء على طلب خاص من جنيفر، التي أرادت ألا نثقل على اللاجئين بأجواء سوداوية وتراجيدية. كيف لي أن أكتب عن اللجوء من دون أن تتمزّق روحي وتتأوه.
القصيدة الأولى تحدثت عن زوج لاجئ يحاول العبور إلى زوجته المواطنة. يتحدث عن اختلاف شكليهما وطباعهما وأذواقهما وآمالهما ويعد الجمهور بتطليقها حالما يعبر الحدود.
القصيدة الثانية تحدثت عن محاولة عربيّ أن يصبح إنكليزياً وكيف تعترضه العروبة في كل ركن من إنكلترا. من ساحة «الطرف الأغر» إلى قبور الجنود التدمريين، الذين جاءوا مع الرومان ودفنوا في كرومويل. تضاحك الجمهور فاستبشرت خيراً.
بعدها ألقيت قصيدتي «أندلس القاطرات» وختمتها بالقول:
سنخبر كيف عبرنا إلى بحر إيجة
وتهنا كعوليس والساحرات
وكيف أخذنا البحر إلى غابة في فرنسا
فطوّقنا المسعفون بأسلاكهم والهدايا
فقلنا سلاماً
على خيمة في فيينا
ونهر ببرلين
سلاما على اللاجئين
سلاماً على وطن نقترضه ليوم الحساب
لمنفى وسيع بعرض الشتات
سلاماً لأندلس القاطرات.
وما أن انتهيت حتى رأيت فردوس علي، الشاعرة الصومالية، تذرف الدمع.
تذكرت ضاحكا ما قيل عن الفارابي من أنه كان يعزف فيضحك الناس ثم يعزف فيبكيهم ثم يعزف فينيمهم. «باق أن يناموا»، قلت لنفسي.
هزّتنا الرحلة جميعاً وملأتنا بالمشاعر. تطايرت آمالنا المشبعة برائحة الحريق والزبالة و«كتب الغابة» والجهود الإنسانية الرائعة لتحسين شروط البشرية والمطعم الأفغاني الرخيص ـ والنظيف ـ في قلب المخيم.
لكن أهم الدروس التي تعلمتها يومها هو أن هذا المكان المخزي في قلب حضارة فرنسا وشعار ثورتها حول الحرية والإخاء والمساواة لم يجعل من سكان المخيم يخسرون كبرياءهم وأن إحساسهم بالكرامة كان يحلّق عالياً، أعلى من ظروف المكان.
المصدر: القدس العربي