كتاب «الشعرية العرفانية» لتوفيق قريرة: الشعر أيقونة إدراكية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

امتنان الصمادي

 

لئن كان الاختلاف قائما بين من يرى أن الاستفادة من اللسانيات في الدراسات الأدبية شرعيّة وبين من لا يرى ذلك شرعيا، فإنّ إطلالة على كثير من الدراسات الجامعية أو المقاربات النقدية تظهر أنّ اللسانيّات أسهمت إن قليلا وإن كثيرا في إثراء الدراسات الأسلوبية والنقدية، بل أنّ بعض الاتجاهات كالسردية لم يكن لها أن تنشأ لولا جهود لسانيين وسيميائيين، أمثال تودوروف وبارت وغريماس وغيرهم. وإذا كانت للشعرية أصول فلسفية قديما مع أرسطو تتمحور حول نظرية الخلق الفنّي بمعناه الواسع، الذي يرتبط بالجمالية فإنّ لها أيضا تأصيل نظري في اللسانيّات الحديثة، إذ استفادت من مفاهيم اللسانيات البنيوية منذ خمسينيات القرن العشرين، وقد اشتغل على هذا المفهوم كثيرون من أبرزهم جان كوهين في أثره الشهير «بنية اللغة الشعرية» الذي اشتغل على ثنائية تقابلية هي الشعر اللاشعر، وهذا التقابل في جوهره مفهوم لساني بنيوي يجد جذوره في مفهوم «القيمة» لفردينان دي سوسير، مؤسس اللسانيات الحديثة.

لم يكد يخفت بريق الشعرية البنيويّة حتّى ظهرت شعرية جديدة انتسبت هذه المرة إلى اتجاه لساني ظهر في سبعينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، يعرف باللسانيات العرفانية وتسمت الشعرية به فقيل لها الشعرية العرفانية.

وفي هذا الاتجاه الذي لم يمرّعليه غير عقدين من الزمان ينخرط مؤلّف الكتاب توفيق قريرة أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية، ولقد اختار له عنوانا: «الشعرية العرفانية: مفاهيم وتطبيقات على نصوص شعرية قديمة وحديثة» في 442 صفحة، وينقسم إلى بابين كبيرين الأوّل منهما في الممهّدات العامة. والثاني في عرض جملة من المفاهيم العرفانية وتطبيقها على نصوص شعرية، ومن هذه المفاهيم الميدان العرفاني والفضاءات الذهنية والمزج والتعديل البؤري والإيقونية وغيرها من المفاهيم التي اعتمدت لدراسة قضايا الشعرية الكبرى كالاستعارة وتنوّع زوايا النظر والإيقاع والعدول وغيرها، ولكن بطرح جديد فيه تركيز على البعد الإدراكي الذهني للغة الشعرية، بما هي بناء فريد من الوضعيات تقال شعرا.

وبما أن الشعرية العرفانية تركزعلى البعد الإدراكي للشعر فإنها بالتالي تنظر إلى الكلام الشعري على أنّه قبل كلّ شيء نشاط ذهني يعالج اللغة، كما يعالج بقية الأنشطة العادية. وفي تناول الشعرية العرفانية للنص الشعري فإنها تركّز على التأثيرات الخصوصية التي يحدثها هذا الضرب من الكلام وعينها على القدرة البشرية على أن ينتج بنى شعرية ويفهم تأثيراتها ضمن ما يعرف بالقدرة الشعرية، أو القدرة التصويرية، وهي قدرة بشرية تجعل الشاعر يبني العوالم بأشكال مختلفة، لأنّه أدركها بأشكال مختلفة وتفاعل معها بأشكال مختلفة. ونحن حين نتلقاها سنتفاعل معها بإدراك آخر، لأنّ بناء الشاعر لعوالمه يختلف عن محاولة القارئ/ المستمع، إعادة بناء تلك العوالم لأسباب ثقافية ونفسية وغيرها، ولاختلاف الآليات التي بني بها الشاعر الوضعيات التي يصفها ومن ثم نعمل على إعادة بنائها عند القراءة. 

ولذلك غالبا ما نتحدث في القراءة عن تحريفات أو تحويرات أو اختلافات للعمليات الإدراكية الأصلية التي كانت لدى الشاعر، غير أنّ هذه ليست عوائق، بل دوافع جديدة تجعل القراءة كالبناء الجديد المختلف عن البناء الأصلي للوضعيات. فمن الصعب مثلا أن نقرأ «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر» ونحن نبني العوالم الإدراكية ذاتها التي بناها السياب لحظة بنى هذا المشهد، بمعنى أنه من الصعب أن يبني من يعيش في بيئة نخيل تلك العوالم، كما يبنيها من لا يعرف تلك البيئة.. لكن من اليسير أن نعرف لمَ بنى الشاعر شعوره بجمال العينين بوجهة نظر مختلفة. إنّ لوجهة النظر بوّابة مهمّة وكبرى في تفسير اختلاف الشعراء عن غيرهم في بناء مشاهدهم، أو في استخدام الملكة التصويرية بشكل تأثيري. 

هذا ويمكننا القول في نهاية المطاف إن كثيرا من المسائل الأخرى ممّا تهتمّ به الشعرية العرفانية في كتاب يجمع بين تقديم النظرية اللسانية وتطبيقها، بالاعتماد على نصوص شعرية قديمة وحديثة كانت القراءة العرفانية طريقة من طرق إحيائها وبعثها في أرواح جديدة تكون فيها اللغة في تفاعل مع الذهن والثقافة ويكون فيها الشعر إيقونة إدراكية مثلى. وعن الإيقونة يقول المؤلف: «إنّ الإيقونية الشعرية تجعلنا ندرك الوضعيات على أنّها وضعيات مخصوصة بناها الشاعر كما أدركها، وعلينا أن نبنيها كما أدركها، وأنّ إدراكنا لها يكون أيضا بالشعور بها وأنّه بالشعور بها نشعر بصورة من صور الكون تلك التي بناها الشاعر كما بناها»

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى