كتاب «في نقد المثقف والسلطة والإرهاب» لأيمن عبد الرسول: الثقافة العربية محكومة بذهنية «الروبابيكيا»!

الجسرة الثقافية الالكترونية

*الطاهر الطويل

 

كان الكاتب والصحافي المصري الراحل أيمن عبد الرسول يرى أن المثقف أصبح إشكالية، لأنه يدّعي دائما أنه الأكثر وعيا والأكثر استنارة والأكثر تقدمية وعقلانية وثورية. غير أن هذه الادعاءات تتحطم على صخرة الواقع، فيبقى المثقف مشدوها أمام ظواهر كان أولى به أن يعرض إليها وأن يتفهمها، وأن يحاول تقديم العلاج لها.

في كتابه «في نقد المثقف والسلطة والإرهاب»، الذي صدر ضمن منشورات «رؤية» في مصر (336 صفحة من القطع المتوسط)، اعتبر أيمن عبد الرسول أن الوجه المسيطر على الثقافة العربية هو التخلف، والتقدم بخطى سريعة للخلف، وقال: لا نحزن نحن المتطلعين إلى آفاق التنوير على أمل أن المستقبل لنا ومعنا، ولكن عندما نتذكر رواد النهضة الأوائل: رفاعة الطهطاوي، سلامة موسى، شلبي شميل، فرح أنطون، إسماعيل أدهم، ياسين الحافظ، حسين مروة، الشهيد فرج فودة… ونتساءل أين هم الآن؟ ندرك أن التفاؤل لا معنى له، وأنه لا مستقبل ولا يحزنون. فالحرية ـ هذه الكلمة المحرمة ـ بعيدة عن العقل العربي التابع، والذي ألف الإجماع، واجتهد في العقم الفكري حيث لم يعد أمامه سوى المصادرة والتكفير وقذف الفكر الحر بالرصاص، فسيطر عليه التراجع، وعزّ عليه الانفكاك من القيد أو الانفلات من عبادة أصنام الماضي، لأن العقل في عقله عقال لا تعقل، تبعية للماضي لا استقلال أو سعي للمستقبل، قيد لا حرية.

وأضاف الكاتب قوله إن المثقف، بوصفه كائنا مختلفا، يواجه مثلث سلطات، يتكون من المجتمع والدين والدولة، فالمجتمع يمارس سلطاته استنادا لسلطة الدين، والدين والمجتمع خاضعان في النهاية لسلطة الدولة، السلطة السياسية بما تصدّره من شعارات، وما تقولبه من أوعية تناسب مصالحها في النهاية. ولعل هذا البناء المعقد هو أحد أهم أسباب حرب الدولة على مؤسسات المجتمع المدني. فالأفراد في المجتمع ـ والكلام دائما لأيمن عبد الرسول ـ يصنعون الأصنام ثم يعبدونها بدون أدنى شعور بالعار، واستنادا إلى سلطة قدم هذه الأصنام وتجذرها في اللاوعي المجتمعي، ويواجه المثقف هذه الأصنام، والحديث هنا عن المبدع التقني، المحافظ، القيمي، المنتمي إلى مجتمعه حتى عمامته. فالأخير منشغل بتثبيت سلطته وتبرير ازدواجيته، والسخرية من الآخر، وإلقائه بكل التهم، بدءاً من الشيوعية ـ عندما كانت تهمة ـ وانتهاء بالتطبيع، مرورا بالخيانة والعمالة والكفر والإلحاد…الخ.

 

موت المثقف أم انتحاره؟

 

واصل أيمن عبد الرسول نقذه اللاذع للمثقف العربي ولأشكال تمظهراته الفعلية، فقال: إذا كان المثقف الغربي انتهى دوره، لأنه أوصل مجتمعه إلى بر الأمان، والمعلومات والمعارف لم تعد تحتاج من الإنسان الغربي سوى ضغط أزرار ليحصل على ما يريد دون وساطة، فإن المثقف العربي انتحر عندما آمن بأن دوره هو نسج قصائد تلحس قدم الخليفة وتمجد عرش السلطان، فآثر العزلة والتقوقع، وأخيرا مات منتحرا بالأيديولوجيا والفلسفات المغتربة عن روح الجماهير. وحتى أولئك الذين زعموا أنهم مثقفو الشعب لفظهم الشعب ولم يتقبل وصايتهم على الحقيقة، لأن الشعب اكتفى بالحقيقة التي يوفرها له الدين والواقع العملي المعاش!

وفي رأي مؤلف الكتاب، فإن مظاهر العودة إلى التراث والهجوم على العولمة والنظام العالمي الجديد وادعاءات الخصوصية والغزو الثقافي تشكل آخر ورقات التوت التي تسقط من على عورة العرب التاريخية، ومداراة واضحة للإحساس بالدونية والعجز والنقص. إنها آليات بقايا المثقفين العرب الدفاعية، واستمرار للسياسة التي تضع رأسمالها في الرمال بدلاً من أن تواجه المصير المحتوم.

ولذلك، لم يتردد المؤلف في الترحم على روح المثقف العربي المنتحر، داعيا إلى التواصل مع تراث المثقف الغربي الشجاع الذي أعلن بنفسه عن موته، بسبب انتهاء دوره ودورته التاريخية.

وبالقدر نفسه الذي وجه الكاتب سهامه إلى المثقف العربي، انتقد كذلك الأصولية بمظهريها الديني والعلماني؛ فقال: إن التناقض الذي نقع فيه، هو أن يدافع القطاع العلماني عن كيان الدولة المدنية الحالية في الوطن العربي، متناسيا تجاوزاتها بادعاء أنها «أفضل من غيرها»، لكن بنظرة موضوعية للوضع العربي الراهن والذي يرفض العلمانيون نقده في مجمله، ويسلطون كشافات أقلامهم على الجانب الديني السياسي المظلم والمناهض لحقوقهم فقط، وهو الذي يتحلى بديمقراطية زائفة تؤكد فشل الأنظمة الديكتاتورية الفردية بوجهها القبيح الطاغي.

ويمكن للمتأمل قياس مدى تطابق هذه الأفكار التي عبّر عنها الكاتب منذ إحدى عشرة سنة (تاريخ صدور الكتاب) مع المستجدات الطارئة في الساحة السياسية العربية حالياً، للخروج باستنتاج مفاده أن هذه الأفكار ما زالت تحافظ على راهنيتها ومصداقيتها، حيث قال أيضا: إن فشل النظام العربي الحالي «المدني» اسماً، الأوتوقراطي في جزء منه، والعسكري في المعظم الباقي، في تخفيف معاناة المواطن العربي وإعطائه كامل حقوقه وأداء واجباته، هو أكبر دليل على فشل التصور الإسلامي والعلماني معا في احتواء الفكرة المتطورة، لأنه يفهم العلمانية كأصولية يرددها بما هي مقولات ثابتة، ونصوص فقدت فاعليتها مع الزمن، تماما كالأصولية الإسلامية المتراكمة في عقول الأصوليين.

ومن ثم، دعا أيمن عبد الرسول إلى «تحرير الوعي العربي من كل قيوده اللاعقلانية»، منتصرا إلى ما يسميه «العلمانية الجديدة» التي تتجاوز النظرة القاصرة للأصولية العلمانية، مطالبا بضرورة تحرير الدين من سلطة الدولة العسكرية وبإقامة علاقة جديدة بين الإسلام والعلمانية؛ «فإذا كان كلاهما دعوة للتطوير والتغيير والتقدم، فلماذا الشقاق؟ وإن كان كلاهما يدافعان عن حق الإنسان في مواجهة كل أشكال الاستبداد، فلماذا لا يتحدان؟» تساءل الكاتب.

 

ذهنية «الروبابيكيا»

 

«الروبابيكيا» هي الأشياء التي استغنى عنها أصحابها بعد استهلاكها. وإذا كانت هذه المخلفات المستعملة موجودة في الواقع الاجتماعي، فإنها ـ باعتقاد الكاتب ـ ما زالت سائدة في الثقافة العربية، من خلال اللجوء إلى «مخلفات السلف العربي الصالح، أو الخلف الغربي الطالح» بحسب تصنيف العقلية العربية. ثم عرض الملامح العامة المكونة لذهنية «الروبابيكيا»، على النحو التالي:

أولا: الاعتماد الدائم على مخلفات الآخرين في كل المجالات (ثقافة، صحافة، سلوكيات، عقائد…).

ثانيا: الثقة المطلقة في سلطة القِدم والانتشار لأفكار طوباوية عن ماض مجيد، حقق فيه العرب الحلم بالتوحيد.

ثالثا: العودة دائما إلى الماضي للبحث عن حلول لمواجهة مشكلات المستقبل، والمغامرة بالفصل في أن الحلول القديمة المستهلكة صالحة لكل عصر.

رابعا: سيطرة أنماط التفكير الخرافي على المواطن العربي، بحيث تزداد بقعة التخلف اتساعا تحت دعاوي العودة إلى التراث.

خامسا: عدم الاعتداد بالآراء الحرة الجديدة من مفكرين أو مجتهدين ليسوا أصحاب نفوذ أو شهرة، بغض الطرف عن صحة هذه الآراء من عدمها.

سادسا: وضع أي جديد في أي مجال على ميزان الشعور الديني ومقياس الحلال والحرام.

أشار الكاتب إلى أن «ذهنية القطيع» تحكم السلوك والتفكير العربي، موضحا أن الخضوع لهذه الذهنية قضاء مسبق على الإبداع والتقدم، كما أن تلك الذهنية تشكل ردعا باطنيا لكل من يفكر في التغيير والثورة على الأوضاع القائمة. وأكد المؤلف كذلك أن الثورات الثقافية في العالم لا تتأتى إلا بالتمرد على ذهنية القطيع وتحويل مسارها. لكن المأساة ـ كما قال ـ أنه عندما تستقر الأحوال لأصحاب الثورة تتجمد، وتصبح عائقا لكل محاولة جديدة يبذلها الآخرون من أجل التغيير.

وبحسب مؤلف الكتاب، يبقى الحل في النهاية لتجاوز ما يسميه «أزمة الوعي الاستسلامي» في المجتمعات العربية، هو تأسيس «وعي استفهامي»، يقوم على مراجعة نقدية لكل ما راكمه العقل العربي في عهوده المختلفة، ولاسيما موقفه من الآخر والعقل والحرية، من أجل إجابات جديدة لأسئلة ما زالت حائرة ولم تجد أجوبة بعد.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى