كونية قصيدة النثر أو الشعرية الحديثة

الجسرة الثقافية الالكترونية
عز الدين بوركة
الشعر من أهم منجزات الكائن، منذ بدايات التاريخ، بل هو أهمها على الإطلاق، إذ يصاحبه في ماديته وروحانيته/أفكاره ويومه. وإن المنجز الدائم، ليس ذلك الثابت أو المستقر على حال، بل هو ذلك القابل لأن يحتوي عدة تأويلات. وأن يجعل لنفسه بقوة انكتابه، أن يصير كونيا إنكتابا وكتابة وتلقيا. الشعر بوجه عام، كما يقول هيغل، هو الفن الحقيقي المطلق للروح المتظاهر من حيث هو روح. (…) وعلى هذا، فإن الشعر بمضمونه، من بين سائر الفنون، أغناها وأكثرها لا محدودية.
فقصيدة النثر، أحد منجزات الشعر، تحقق لها ما لم يتحقق لسابقيها من استدراج لغة الانزياح والخرق والرمز، ولغة الحديث اليومي، واستعمال السرد والحوار… مستمدة من الحداثة والثقافة أهم مقوماتها. فهي حالة من الإبداع تتعلق بذاتية الشاعر، ويومياته ورؤيته للعالم الخارجي. وهذه القصيدة تنتمي بالأساس إلى السياق العام للنثر أولا وللسياق الشعري العام ثانيا. قصيدة النثر باختصار، كما يقول باسم الأنصار، هي نثر غايته الشعر.
فهذه القصيدة عرفت تطورا سريعا ملحوظا وواضحا، ومن أهم تلك الكتابات التي جعلتها هذه القصيدة أسلوبا لها، ألا وهي جعل القصيدة تنفتح على احتمالات عدة في الفهم والتصوير والتخييل، داخل ذهنية القارئ. فشعراء قصيدة النثر الذين يتبعون هذا الشكل الانكتابي لقصيدتهم، إنما ينطلقون من تلك النظرية الفيزيائية الحديثة (النسبية/الاحتمالية)، وإيمانا بأن الشعر اليوم صارت له وظيفة شبه فلسفية.
1. عبد الله زريقة: الشعر الصوفي الحديث
إلى جانب أسماء قليلة جدا، يحاول الشاعر المغربي عبد الله زريقة بما استطاعه من شعر وفلسفة، أن يكتب القصيدة عامرة بالمتن الفلسفي، تَنْحَل من المدارس العلمية والأدبية (تفكيكية، نفسية…إلخ) وأخرى فنية وصوفية… في محاولة جاهدة لخلق معجمه الشعري الخاص.
وكذبابةِ شمعةٍ
أطفئُ ضوئي فيَّ
وكممحاة أمحُو
وجهي بوجهي.
لقراءة عبد الله زريقة، قد يحتاج القارئ لمعرفة مسبقة بفلسفات ونظريات وأفكار كونية كبرى، يجعل منها الشاعر متنا يستند إليه في كتابة قصائده. هذه الكتابة التي تتخذ من الرؤية الصوفية أسلوبا لها، إذ نجدها مكتنزة بالمعاني والرموز والإشارات، تتوالد ذاتيا أو فيما بينها، داخل نسق القصيدة، وإيقاعها الداخلي وتبتعد عنها إلى الكتابة الحديثة. مما يدفع بالمتلقي، أن يكون عارفا بالحساسية الشعرية الجديدة التي تنتمي إليها قصائد هذا الشاعر، ليتمكن له كشف تلك الدلالات والأبعاد التي تحملها هذه القصائد في طياتها، وآفاقها. كأنني به الشاعر يذهب إلى بعد ميتافيزيقي لا يعيه إلا هو، فيقول:
لم أفهم هذه الميتافيزيقا
إلا حين سال مني دم كثير.
عبد الله زريقة، الشاعر الذي اختار لنفسه الانعزال والاستفراد بالذات، يقول الناقد اللبناني جهاد الترك عنه: «(…)هل من شأن الشعر وهو يشق طريقه إلى الغياب الذي لا عودة منه، أن يحكم على نفسه بهذه العزلة الأبدية وراء جدران يتعذر تسلقها من الداخل والخارج؟ (…) الأرجح أن لا شيء من هذا القبيل، وإن بدا أن الشاعر يضعنا في هذه الأجواء القاتمة. إنه أحد المشاهد التي يشيعها في هذه النصوص تعبيرا عن التحولات الذاتية العميقة التي تداهمه، وهو ينظر إلى العالم من موقع الغياب، الذي بلغه بعد نزاع عنيف مع اللغة وتداعياتها وانكساراتها».
أما الأرض فجوع يقتات ببعض
الأعشاب المُحترقة ببرد الظّلمة
اختلفت لغة عبد الله زريقة بشكل واضح وكلي عن تلك التي بدأ بها شعره أول مرة في ديوانيه «رقصة المرآة والوردة» و»تفاحة المثلث»… إذ في آخر أربعة دواوينه «فراغات مرقعة بخيط شمس–سلالم الميتافيزيقا–حشرة اللامتنهي–إبرة الوجود»، ابتعدت-اللغة-بشكل مطلق، عن تلك الكتابات السياسية المؤدلجة وتلك اللغة الشاعرية الرتيبة. إلى لغة استثنائية، يمكن الاصطلاح عنها، أنها إقامة في اللغة. يولف الشاعر جملته وعبارته أكثر من مرة، في شكل دوراني والتفافي، لكنه كل مرة يتحاشى الوقوع في التكرار والسقوط في مطب، إعادة إنتاج القول مرة أخرى، كأنما يرغب في تقليب اللغة على وجوهها المختلفة بنى وأساليب وتراكيب، بغية كتابة الداخل حتى لو ذهب بعيدا، وحاذى تخوم المجازفة، فيما قوله الشعري يحفر مجراه وحيدا، بنفسه.
وتحضر داخل قصائد الشعر عبد الله زريقة توظيفات معجمية تميّزه عن باقي شعراء هذا الأسلوب، وتقربه من الشاعرين محمد مقصيدي وفخري رطروط، من حيث التوظيف لمعجم الأعلام، الفنية والفلسفية والصوفية بالخصوص لديه (ماتيس/ابن عربي/سبينوزا/الحلاج/فان خوخ/بيسارو/رونوار…إلخ). وإن يتفرد بتلك المقاطع (آه أه آه/واه أواه/ياهاه…) كأني به الشاعر يصرخ، نداءً للقارئ لاستدراجه داخل غياهب ذاته وعوالمه الخاصة.
2. محمد مقصيدي: الشعر في كونيته
لم يعد ممكننا الحديث عن القصيدة الحديثة العربية دونما الحديث عن الشاعر المغربي محمد مقصيدي وتجربته الشعرية. فهذه التجربة التي تتخذ لنفسها سلالم لا آفاق تقف عندها لبرهة أو طول زمن، بل هي في صعود مستمر، يبتغي الأفق الكوني.
تعالي حبيبتي نرمي الكون
من نافذة المنطق
تعالي نملأ مسام الوجود كلها
بالجنون..
قد نتفق عند أول قراءة للمتن الشعري لهذا الشاعر، أنه يندرج ضمن خانة شعر عبد الله زريقة نفسها، أي نعم ولا مناص من ذلك، من حيث تلاقيهما في استعمال ذلك المعجم الصوفي، وكيفية توظيفه في النسق الإيقاعي الداخلي للقصيدة. وحضور تلك الأعلام الصوفية تارة أو الفنية تارة أخرى أو الفلسفية والعلمية والدينية أحيانا، وهذا واضح عند الشاعر محمد مقصيدي (هيغل/بشار زرقان/الحلاج/ابن عربي/مريا تريزا/معاوية بن سفيان/زرادشت/نيتشه…إلخ). إلا أن القصيدة عند محمد مقصيدي تتخذ أساليب وأشكالا مختلفة ومتعددة، فالشاعر بهذا لا نعني أنه لم يستقر بعد عند أسلوبه الخاص، بل بالعكس تماما، فقوة هذا الشاعر في تمكنه من التعدد داخل أساليب مختلفة ومتنوعة. من اللغة الغامضة والصوفية، إلى اللغة الرومنطقية، إلى أخرى بسيطة وهادئة.
عندما خرج ديوجين من البرميل وتحت إبطه
غموض من حرير
وأرسل هدية إلى إديت بياف، كان الشك
يقضم ملابس ديكارت الداخلية
وكان سيمون بوليفار يحرك ذيله مثل قط.
حديث عن الهادئ والبسيط في شعر محمد مقصيدي، يدفعنا الأمر إلى الإتيان بما جاء به ذلك الفيلسوف الألماني، فريدريك هيغل، حول ذات الموضوع، في كتابه «فن العمارة»: «البسيط، من حيث أنه بساطة جمال، العظمة المثلى، هو بالأحرى نتيجة لا يتم الوصول إليها إلا بعد توسطات عديدة، هدفها استبعاد التنوع والمبالغة والتخليط والعسر، من دون أن يتأثر هذا الانتصار بالأعمال التمهيدية… بحيث يبزغ الجمال…»، فلبلوغ هذا المستوى يحتاج الشاعر/الفنان، لدربة ومهارة واشتغال قاس، وحسن رؤية -بل لعلني أسميها نبوة.
فالشعر عند محمد مقصيدي ينتقل من البسيط والهادئ، إلى ذلك الصوفي الغامض والفلسفي. إلا أن هذا المسمى هنا بسيط يحمل عمقا في ذاته، كما يقول جيل دولوز. فيتمكن بالتالي الشاعر من أن يجعل لنفسه قوة التنقل من أسلوب إلى آخر، من دون أن يفقد تلك القدرة على كتابة قصيدته، بذات العمق.
ويسقط في قلبي،
ذلك الاصطدام المفاجئ والعنيف
مع الجمال،
ذلك النزوح الجماعي للأحلام
في الروح،
فبالتالي يصير الشاعر بذلك قد ولج إلى كونية القصيدة الحديثة، الحديث عن قصيدة النثر، تلك التي لها طموح لتستوعب تقنية الرسم من خلال الصورة والحكي من خلال القص والمشهدية السينمائية والسردية الروائية، كما تستدعي الومضة والمفارقة وغيرها من التقنيات لإنتاج المعنى الشعري بطريقة تدوير القيمة وخلقها خلقا جديدا لا تصديرها كما هي معلبة في موارد استدعائها. عبر إعادة تصوير هذا العالم، عبر صور تخص الشاعر لا تلك النمطية.
استطاع الشاعر محمد مقصيدي، أن يخلق لنفسه إيقاعا داخليا، للقصيدة عنده، ينبني على حسن توظيف للكلمات داخل نسق غير اعتيادي بالنسبة لنسقها المعروف.
3. فخري رطروط: الشعر رؤيا والومضة
تجعل الرؤية /الرؤيا الشعرية الحديثة – كما القديمة- من الذات منطلقا أولا لها، لتصل بالتالي إلى مبتغاها: الكون. معتمدة الحدس والخيال والعاطفة… فالشعر يسنح للمتلقي الدخول إلى عوالم لم يسبقه ولوجها.
ولا ينفصل الشعر أبدا ومطلقا عن اللغة، إذ اللغة وسيلته الوحيدة. وما غاية وقوة الشعر إلا بكونه يعرض للإدراك الحسي الحق. فتجربة الشاعر الفلسطيني، المقيم في نيكاراغوا في أمريكا الوسطى: فخري رطروط، تجعل من القلق والرؤية والإدراك الحسي، منطلقا أساسا لها. فتلتقي بالتالي وتتقاطع مع تجربة الشاعرين عبدالله زريقة ومحمد مقصيدي، في تلك النفحة الوجودية العامرة بها متون قصائدهم وأشعارهم.
فالشاعر يجعل من شعره ساحة تمرد وتمثيل لذلك الإنسان الأكثر عمقاً وشمولا في استيعاب قيمة وجوده في العالم ومعنى الكون-الحي بالنسبة له. فنجد حضورا لذات الشاعر بقوة داخل قصائده، التي تتخذ من الومضة الشعرية شكلا كتابيا لها، داخل نسقية واحدة للقصيدة الأم. إنّها بهذا تدفق شعري يعانق فيه الخيال الواقع. تقوم الصّورة فيها على التّلقائية.
الأرض مرآةُ السّماء
السماء مرآة الأرض
-أين أواري وجهي القبيح؟
يحضر بشكل لافت، توظيف الشاعر لمعجم الجسد والذات الكاتبة داخل متنه الشعري، سواء عبر ذلك التوظيف غير المباشر عبر استعمالات لغوية من ضمير المتكلم أو ضمير المخاطب. أو ذلك التوظيف المباشر للجسد لفظا وجزءًا. هذا التوظيف إنما هو تعبير عن تلك الحالة القلقة التي تعتري الشاعر في دواخله، وتنسجم كليا مع رؤيته للعالم، وكتابته الشعرية. إنها بهذا المعنى يصير لها أن تكون تطابقا أكيدا بين ذات الكاتب ورؤيته للعالم. إنها انسجام كوني بين الشاعر وعالمه الداخلي والخارجي، الشعري والواقعي.
رأسي علبة سحرية
افْتح الغطاء يصفعك مهرجٌ قبيح
افْتَرَسَتِ اللوالبُ الحديدية قدميه
في العلبة السحرية أبداً لم يكن شيء ذو قيمةٍ.
أركض
في البراري وأصهلُ
على ظهريَ جُثتي.
أنا الضّرس المخلوع
في فم الحياة.
إن كتابة الومضة الشعرية، وجعلها تنساق داخل نسق شعري لقصيدة أم مطولة، أمر يستحق إلى جانب العناء الشعري، الإلمام الجيد والرصين بالكتابة الرمزية العامر بالدلالات التي تجعل منها قابلة للتأويل وإعادته مع كل قراءة متجددة لنفس القصيدة. وقد تحقق هذا جيدا للشاعر فخري رطروط، ليكون بالتالي قد اتفق والشاعران المذكوران أعلاه. ويزيد اتفاقا وإياهما، في استعماله لتلك الرؤية الفلسفية والصوفية (بالخصوص) وتوظيفها شعريا، ونجد هذا واضحا بشكل تام، داخل منجزه الشعري «صنع في الجحيم» الذي هو عبارة عن ست قصائد مطولة، كتبت عبر أسلوب شعري واحد، يجعل من الغموض والرمزية شكلا له، بالإضافة لحضور معجم الموت والرهبنة والتصوف والإلوهية، وما يزيده عمقا من حيث الانفتاح على مخيلة المتلقي واستدراجه لداخل النص، هو توظيفه لأسلوب الاستفهام بشكل بارز، توظيفا يجعلنا نُحالُ إلى قصيدة الدهشة مباشرة.
الرب الذي يرعى نملة في ثقب مظلم أتراه ينساني
أيها الرب:
كيف أزهر وأنا ظلّ الجدار؟
مما يجعلنا نقول إن الشاعر فخري رطروط شاعر متعدد بامتياز، يعرف كيف يلاعب اللفظ ويوظفه، كيف يعدد قصيدته ويعمّقها.
المصدر: القدس العربي