لعبة السرد في رواية «المدينة التي» للمغربي هشام ناجح

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مراد الخطيبي
المصدر / القدس العربي
صدرت رواية «المدينة التي» لكاتبها القاص المغربي هشام ناجح سنة 2012 عن المحلاج، وهي من الحجم المتوسط وتضم 80 صفحة.
الكاتب أو السارد والراوي أو العلاقة الغريبة/العجيبة:
ما يثير الإعجاب ويستدعي الانتباه في الآن نفسه هو، هذه العلاقة التي سطرها منذ البداية الكاتب مع الراوي. فقد أقر الكاتب أو السارد بصداقته للراوي، ومن خلال هذه العلاقة، سيعيش القارئ عدة حالات ومشاهد تتسم تارة بالاتفاق والإعجاب المتبادل وتارة أخرى بالاختلاف، إلى درجة الرفض والإلغاء للآخر. الجميل من هذا كله هو وجود السارد والراوي على المستوى نفسه من الفعل داخل الرواية، حيث يمكن اعتبارهما ولو مجازا أنهما ليسا من ورق، وفي خطوط متوازية إلى حد ما يتبادلان الأدوار داخل العمل الروائي بطريقة سلسة، تضفي نوعا من السخرية على عالم «المدينة التي» وتخلق لا محالة لذة لدى القارئ: «كان يوما غير عادي كما حدثنا الراوي والعهدة عليه طبعا. يبدو أنني أشاركه مجموعة من الأحداث. صادفته في العديد من المرات يلتهم خبزه الجاف الممزوج بطعم تلك الأيام العجاف التي يشيب لها الولدان» (ص11).
فالرواية تقوم إذن منذ البداية على تكسير المفهوم الكلاسيكي للشخصيات الروائية التي تستمد ـ حسب نظر هذا المفهوم- خصائصها ومميزاتها من طرف الكاتب، هذا ما نجده مثلا في تعريف إ.م فورستر الذي يعتبرها «إبداعات داخل إبداعات».
طبعا هذا التعريف سيتم تجاوزه مع التحليل البنيوي الذي سيعتبر الشخصية في الرواية ليس فقط كائنا بشريا أو كائنا حيا، ولكنها فاعل حقيقي وهذا ما نجده في أعمال بارت، كريماس وتودوروف، هذا الأخير الذي يؤكد على أن تحليل شخصية ما في الرواية يتم في إطار علاقتها مع الشخصيات الأخرى المشكلة للعمل.
انطلاقا مما سبق، فالراوي في رواية «المدينة التي» ليس خارج الأحداث، ولكنه داخلها بل وفاعل حقيقي فيها، وقادر على التحدي والاستفزاز أيضا: «الراوي يخالفني الرأي ويسند إلي بنعنعته موضحا الظروف الجديدة التي حفت هذه الرحلة.»(ص12).
نستطيع هنا أن نتحدث عن «موت الكاتب» كما عبر عن ذلك رولان بارت في مقاله الشهير الذي يحمل العنوان نفسه، وطيلة هذا العمل الروائي سنجد أن الراوي يتمتع بحرية مطلقة إلى حد ما يوظفها كيفما شاء ومتى شاء، يختلف مع الكاتب، يتفق معه ينصحه، يفعل الخير أحيانا. إلا أنه رغم هذه الحرية، يبدو أن الكاتب ألصق به جميع أنواع «المعاصي» و»الفضائح»، بحيث يحس القارئ أن الكاتب ضحية ليس إلا، وأن كل دروس «التسكع» و»الرذيلة»، «إذا اعتبرناها كذلك»، يستقيها ويتلقاها من الراوي معلمه الحقيقي:
«كان الراوي على حق من خلال وصفه للبيت ولطريقة حليمة الممتعة في جذب الشهوة إلى النفوس الظمآنة، ومن يومها استطردت ألوك أبجديتي الجنسية التي كنت أراها بعيدة المنال عن أمثالي من الحفاة العراة» (ص19).
الزمن وتوظيفه في الرواية
الزمن في الرواية متعدد ومتحرك، والكاتب ينتقل بالقارئ من زمن إلى آخر بسلاسة عجيبة كما في المثال التالي: «أنتم معشر المغاربة لا تستهويكم الحياة العصرية ستندم فرنسا على إسرافها في توجيهكم. لم أكلف نفسي فهم هذه السخافات. ما يهمني هو التلذذ بالحياة. أرحنا جسدينا بقيلولة قصيرة. ارتشفنا قهوة سوداء ذات نكهة مختلفة. لقد ألفت قهوة سلام العطار الممزوجة بالزنجبيل والقرفة.» (ص30 ). بعد هذا الحوار مباشرة ينتقل الكاتب بصفته ساردا للأحداث إلى سياق آخر عام مستعملا الفعل الماضي وذلك بطريقة سلسة أيضا: «انتشر التوتر وزاد حرص الفرنسيين على تقفي أخبار الوطنيين، وطالت الاعتقالات العديد من الأبرياء»( الصفحة نفسها). بعد هذا الاستطراد الجميل وبدون الحاجة إلى استعمال أدوات الربط التي تتميز بها لغتنا العربية، يعود الكاتب لاستعمال فعل الحاضر ليتناول الحديث عن سياق أكثر خصوصية وتحديدا: «يصبح وجه البيضاء شقيا للغاية ويزيد قبحه ونحسه. أوهم حليمة بالمبيت…».(الصفحة نفسها).
ثم يعود مرة أخرى إلى استعمال فعل الماضي بالسلاسة نفسها، وذلك لإكمال الحديث عن علاقته بإحدى شخصيات الرواية: «كانت سنة ثلاث وخمسين حدا فاصلا بيني وبين ستيفاني. غادرت المغرب….»(ص31) لعبة الزمن هاته ستتكرر كثيرا داخل العمل الروائي.
الجنس داخل الرواية
لم يوظف الجنس في الرواية كتيمة فقط محددة لمجموعة من العلاقات الاجتماعية، ولكن الجنس تم توظيفه بطريقة تبدو أنه فاعل حقيقي في مجموعة من الأحداث وعلامة أساسية في توصيف العديد من السلوكات النفسية. لم يتم استعمال الجنس بشكل مجاني كرمز للقوة والسيطرة ولكنه استعمل كرمز طبيعي للذة والشهوة، واتخذ في الكثير من الأحيان ليفضح العديد من التناقضات المجتمعية، فانتقل بذلك بدوره من مجرد موضوع إلى فاعل أو شخصية مجردة تمثل حلقة وصل بين خيوط الرواية المشتبكة.
كثافة الوصف
تتميز «المدينة التي» بكثافة الوصف، وصف غدت فيه التفاصيل الدقيقة في غاية الأهمية من أجل تحديد معالم حالة معينة، أو حدث معين في سياق معين. من خلال الجنوح إلى هذه التقنية، يبدو السارد وكأنه يتجول بكاميرته ملتقطا ما يصادفه بدقة متناهية، كما في المثال التالي: «وجدت والدتي كعادتها بفمها الأحمر من فرط السواك وعينيها الكحيلتين وهي تدندن مبتهجة أمام عجينتها. ستعد «الملوي» الذي يحبه حمادي، تعلم أن الكرش له حساسية مفرطة، لا بد للمرور عليه ليمتثل القلب لأوامر اللوعة الشقية، تبذل قصارى جهدها من أجل تحضير شهوات هذا الفحام حتى يطاوعها ليلا على فراش المتعة. وضعت القفة والكيس معا وكذلك ملابسي البالية. طلبت من والدتي تصبينها حتى أعود إليها ثانية لكي لا تستشعر حليمة خيانتي، خرجت على وجه السرعة رغم إلحاح والدتي على شرب الشاي قاصدا بيت ستيفاني أبحث عن رغد العيش، أمشي بحذر بليغ خوفا من أولئك الجنود الزنوج. وجوههم تبعث على الذعر والرهبة. كان الصغار يثيرون حقدهم ويسبونهم ويفرون…» (ص28 و29).
خلاصات عامة
يمكن إجمالا القول إن رواية «المدينة التي» للكاتب هشام ناجح تستحق القراءة والمتابعة نظرا لتوفرها على العديد من المقومات الفنية تجعلها جديرة بذلك. رواية جميلة على مستوى لغتها السردية: السلاسة، الانزياح المرن، الاستطراد والوصــــف الكثيف. هذا، رغم ما قد يعيب بعض النقاد الكاتب عليه، نقله لبعض العبارات من الدارجة المغربية إلى اللغة الفصحى بطريقة قد تفقدها دلالاتها وغايتها، وقد تؤدي إلى نوع من اللبس والغموض، خصوصا لدى القارئ الذي ليس له إلمام بالثقافة الشعبية المغربية، كما في هذا المثال على سبيل الذكر: «فقد عمل الجبر على سلخ يدي وهو ضرورة ملحة لأخذ الصنعة». (ص32). ويبدو أن الروائي هشام ناجح متأثر في ذلك بنظرية باختين في الرواية، التي يصنفها هذا الأخير أدبا شعبيا يعبر عن الفئات المقهورة. وترجم الكاتب ذلك على مستوى الخطاب باستـخدامه لغة بسـيـطة تحـوي عـبارات «مـبتذلة» في بعض الأحيان ترمي إلى التعبير عن الرفض، والسخط والاحتجاج على السائد والمألوف وكنوع من الثورة ضد كل أنواع القهر والتهميش. أخيرا، لا بد من الـتأكيد على أن الكاتب نجح أيضا في اختيار عدم تقسيم الرواية إلى فصول وتركها مفتوحة، وهو محق في ذلك لأن كل صفحات الرواية لا تستقر على حدث بعينه ولا على سياق خاص أو تيمة معينة أو زمن متفرد. لهذا، يصعب تسييجها داخل فصل أو ما شابه ذلك، وسيجد القارئ متعة في قراءة «المدينة التي» بهذه الطريقة التي تبناها صاحبها.