محطات في مسيرة العلاّمة الراحل ناصر الدين الأسد

الجسرة الثقافية الإلكترونية

المصدر: القدس العربي

هدى قزع*

فارق علامة العربية الأستاذ ناصر الدين الأسد هذه الحياة، بعد أن قدم ما لا يمكن حصره بالكلمات من جهود خدمت اللغة العربية وأمته، فكان خير أنموذج للإنسان المخلص في عمله والمتقن له، يشهد له كل من عرفه بأنه يحسن الانتقاء والتعبير في كل كلمة، بل في كل حرف .
موسوعي الفكر ويحمل الفصحى وواجب الدفاع عنها أينما حلّ وارتحل، محنك في المجال السياسي، ومبدع في فن الإدارة، ومفكر منفتح على كل جديد، من دون انبهار يفقده الاستقلالية، جمع العلم والحلم فكان خير من يقتدى به.
ولد ناصر الدين الأسد في مدينة العقبة في أقصى البادية الجنوبية لشرق الأردن عام 1922، وتنقل في سنواته الأولى في شعابها، وكان لهذه البيئة البدوية أثر واضح في رسم معالم شخصيته. وقبل مولده بثلاث سنوات، كانت قد انتهت الحرب العالمية التي طالت بنيرانها الأمة العربية، بما أشعل ثورة الشريف الحسين بن علي في الحجاز عام 1916. وكان والد ناصر الدين الأسد محمد بن أحمد بن جميل الأسد حينها طالبًا في الأزهر الشريف، فترك الدراسة والتحق بالشريف الحسين ملبيًا نداء الثورة، وقد نشأت بينهما مودة دفعت الشريف الحسين أن يوجهه إلى العقبة ويعينه مديرًا للرسوم ثم قائمقاما لها. وكان والد ناصر الدين، خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر ابنه كثير السفر والتنقل بحكم عمله الرسمي، وكانت والدته لبنانية، من جبل لبنان، تحسن القراءة والكتابة، وتعرف شيئًا من اللغة الفرنسية، فكانت في العقبة أثناء سفر زوجها تنهض بأكثر الأعباء، وما كاد والده يستقر مع أسرته حتى أخذ يشرف بنفسه على تنشئة ابنه وتربيته وتعليمه.
تلقى ناصر الدين تعليمه الابتدائي في أماكن مختلفة من شرق الأردن، أمضى مدة قصيرة منها في مدن الجنوب، حيث درس في الشوبك ووادي موسى والعقبة ومعان، واستكملها بعد ذلك في عمان حين انتقل مع أسرته لها في عام 1933، وكانت صلته بالكتاب قد نشأت منذ الصغر، إذ كان والده حريصًا على أن يحضر إليه من رحلاته عددًا من الكتب، خاصة كتب كامل الكيلاني. وكان ناصر الدين ملازمًا لوالده يحضر معه المناسبات الرسمية، بل يشارك فيها. وفي الشهر الثاني من عام 1935، وحين كان ناصر الدين لم يزل بعد في المرحلة الابتدائية توفيت والدته، وذكرى وفاتها ما زالت عالقة في ذهنه حتى اليوم، فقد أمضى ناصر الدين تلك الليلة معها، ولم يتركها إلا حين ووريت التراب في ظهر اليوم التالي.
كانت المرحلة الثانوية المتوسطة مقدمة مهمة لحياة ناصر الدين الأسد، بحكم اتصاله المباشر مع معلمين مبدعين في طليعتهم كاظم الخالدي، وسعيد الدرة وعبد المنعم الرفاعي وكنج شكري، فتربى ذوق ناصر الدين وهو بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره، على الحس الشعري، فبدأ ينظم الشعر، وكانت تجربته الأولى في كتابة قصيدة متكاملة عام 1939م، وهي بعنوان «فكرة حائمة» قال فيها:
«
خلقتك من روحي الهائمه
وعُلتُك بالنظرة الحالمه
وكان خيالي المهادَ الوثيرَ
وكنتِ به فكرةً حائمه
عطفتُ عليكِ فؤادَ الهوى
وصنتُكِ في مهجتي الراحمه
فأنت وليدةُ هذا الخيال ِ
وبنتُ صبابتي الدائمه
أغذّيك من موحيات الشعو
ر حتى استقمتِ منىً باسمه
فلمّا خرجتِ إلى عالم ال
حقيقة أعرضت يا ظالمه».
ولم يقتصر نشاط ناصر الدين الأسد في هذه المرحلة من عمره على كتابة الشعر، بل ظهرت لديه بوادر الناثر، الذي يحاول أن ينظّر لفن الشعر ومفهومه، فقد نشر مقالة بعنوان «الشاعر» عام 1939، وكان تفاعله مع الأحداث السياسية في تلك المرحلة كبيرًا.
وفي الشهر الثالث من عام 1939، فجع ناصر الدين بفقد والده، وكان لم يزل في السادسة عشرة من عمره، مما عزز في نفسه إرادة أملتها أمنية والده له بأن يكون متميزًا، ولعل ما حققه من نجاح وتألق في ما بعد، كان ترجمة عملية لوفاء الابن لأبيه. وما كاد ناصر الدين الأسد ينتقل إلى الثانوية الكاملة في السلط ( 1938ـ 1939) حتى استدعته مديرية المعارف التي أبلغته بحصوله على منحة للدراسة في الكلية العربية في القدس، إذ كان الأول على دورته في الثانوية المتوسطة. وكان قبل التحاقه فيها قد اضطرته قسوة الظروف إلى العمل كاتبًا في ديوان قاضي القضاة، والمحكمة الشرعية.
ومع أن ناصر الدين كان قد التحق بالكلية شهرًا وبضعة أيام بعد بدء الدراسة فيها، فقد استطاع أن يتفوق، وظل محافظًا على تفوقه والمرتبة الأولى طوال السنوات الأربع في تلك الكلية. كانت المرحلة الدراسية في الكلية العربية مهمة جدًا، إذ يذكر ناصر الدين أن اتصاله بالتراث ترسخ فيها، حيث درس عيون كتب الأدب العربي، وتعلم أصول البحث العلمي ومناهجه على عدد من الأساتذة أبرزهم إسحاق موسى الحسيني. وبعد أن أتم ناصر الدين الأسد دراسته في الكلية العربية في القدس، ورجع إلى عمّان عام 1943، أخذ يعلم في مدارسها، ولم يكن بمعزل عمّا كان يدور في الساحة الثقافية العربية من حركات تجديد، ومنذ عام 1936، كان يواكب ما يدور على صفحات مجلتي «الرسالة» و»الثقافة» المصريتين. ومن أجل إيجاد منبر له ولرفاقه، قام بتأسيس منتدى أدبي في عمّان يضم عددًا من الشعراء والأدباء المتطلعين إلى بناء مشروع فكري ثقافي، أطلق عليه اسم «الندوة الأدبية»، وبقي رئيسًا لها حتى غادر عمّان إلى القاهرة ليستأنف دراسته الجامعية على نفقته الخاصة، فالتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، عام 1944ـ1945، وقد أعفي من السنة الجامعية الأولى لكونه من خريجي الكلية العربية في القدس.
وفي عام 1947 حصل على شهادة الليسانس الممتازة في الأدب العربي بدرجة الشرف، ولأنه كان الأول فقد مُنح جائزة طه حسين. وكان في أثناء دراسته قد التقى فتاةً من أسرة مصرية كريمة، فتزوجها، وولدت له أبناءه الثلاثة وابنته.
ولدى عودته إلى بلاده عمل مدرسًا في المدرسة الإبراهيمية في القدس، ولكنه ما كاد يستقر في القدس حتى أعلن قرار تقسيم فلسطين، وقد عانى ناصر في تلك المرحلة من محنة الانقطاع عن العمل، حتى سنحت له فرصة عمل في ليبيا، حيث قام مع زميلين له بتأسيس أول مدرسة ثانوية متوسطة في مدينة طرابلس، فأمضى هناك عامًا واحدًا، وعاد بعده في عام ( 1949) إلى القاهرة لاستكمال تحصيله العلمي وللتدريس في المدرسة الإنكليزية في مصر الجديدة.
وحصل ناصر الدين على درجة الماجستير في الأدب العربي عام 1951، وكان عنوان رسالته «القيان والغناء في العصر الجاهلي».
كانت السنوات التي عاشها في القاهرة، قد شهدت تغيرات حادة على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وفي هذه الأجواء أعدّ عدته لاستكمال دراسته للحصول على شهادة الدكتوراه، وتميزت سنوات الإعداد التي شملت النصف الأول من حقبة الخمسين، بنشاط أدبي وصحافي خصب. وكان متغلغلًا في النشاط الثقافي بجوانبه المختلفة من كتابة وحضور للمجالس والندوات الأدبية، وفي مقدمتها ندوة «لجنة الترجمة والتأليف والنشر» وفيها تعرف على أحمد أمين، كما التقى أيضًا أساتذة أجلاء منهم محمد فريد أبو حديد، ومحمد عوض محمد، وزكي نجيب محمود وأحمد حسن الزيات.
ومن الندوات الأخرى ندوة كامل الكيلاني، وعباس محمود العقاد، ومحمود محمد شاكر. وقد وصف ناصر الدين ما كان يدور في تلك الندوات في مجلة «القلم الجديد» التي كانت تصدر في عمّان.
وكان الشعر الجاهلي من أهم الأمور التي أقلقت ناصر الدين الأسد معرفيًا، من أجل هذا وجد أنه من الضروري إرجاع النظر في مسألة الشعر الجاهلي، لا سيما بعدما قرأ كتاب طه حسين الذي صدر 1926، وهذا ما قام به بالفعل في مشروعه العلمي لإتمام مرحلة الدكتوراه، الذي جاء بعنوان «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية»، حيث حصل في عام 1955 على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وكان أول أردني يحصل على الدكتوراه من هذه الجامعة.
ولا ريب أن كتابه «مصادر الشعر الجاهلي» عمدة في موضوعه، ويكاد صاحبه بمنهجه العلمي الرصين وإحاطته يعجز الدارسين من بعده عن مجاوزته. ورويت أخبار عدة عن استنكار طه حسين لبعض الآراء الواردة في الكتاب، منها أن فريد شحادة سكرتير طه حسين عندما كان يقرأ هذا الكتاب عليه كان طه حسين يقف منزعجًا.
ومع هذا ظل ناصر الدين يحضر مجلسه العلمي، وقد صرح بهذا في صورة مباشرة لما قال: «كنت أؤم مجلسه حين كان لا يجد المرء موطئ قدم في ذلك المجلس، الذي استمر عشرين سنة، حتى أصبحت أؤم مجلسه وليس فيه سوانا، هو وأنا وحدنا، بعد أن مرض وأصبح لا ينفع ولا يضر، هذه حال الدنيا!».
ولما أتم ناصر الدين الأسد دراساته العليا، ظل يعمل في الإدارة الثقافية في الجامعة العربية حتى عام 1959، حيث اختير عميدًا ومؤسسًا لأول كلية للآداب والتربية في الجامعة الليبية في بنغازي، ولمّا أنهى مدة إعارته لسنتين، عاد ثانية إلى الجامعة العربية عام 1960. وبعدها بسنتين تقريبًا تلقى تكليفًا رسميًا من الحكومة الأردنية للعودة إلى الأردن وتأسيس الجامعة الأردنية في عمّان، التي بدأت الدراسة فيها 1962، وكانت الجامعة الأولى في الأردن.
استمرت رئاسته للجامعة الأردنية إلى عام 1968، عاد بعدها إلى عمله في الجامعة العربية، وشغل منصب المدير العام المساعد المشرف على الشؤون الثقافية بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (القاهرة)، وظل يشغل هذا المنصب حتى عام 1977، حيث عيّن سفيرًا للأردن في المملكة العربية السعودية. غير أنه لم يمكث فيها إلا عامًا واحدًا، عاد بعده إلى الأردن ليتولى رئاسة الجامعة الأردنية مرة ثانية، بناء على طلب الملك حسين رحمه الله، وبعد عامين كلفه الملك بتأسيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)، وكان رئيسه الأول، ثم أسند إليه منصب وزير التعليم العالي وظل يشغله حتى عام 1989، إضافة إلى أنه عضو في عدد من المجامع والمجالس العلمية في مصر، وسوريا، والأردن، والمغرب، والهند والصين، وغيرها.
وتقديرًا لإسهاماته العلمية المتميزة منح عددًا من الجوائز أبرزها، جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وجائزة سلطان العويس الثقافية، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من الأردن، وجائزة الخوارزمي العالمية من إيران، وجائزة باشراحيل التقديرية، وجائزة نجيب محفوظ. كما أنه حصل على عدد كبير من الأوسمة. ومنح لقب أستاذ شرف في الجامعة الأردنية، وأعطى محاضرات لطلبة الدكتوراه فيها، ورعى مشروع قانون حماية اللغة العربية، إضافة إلى توليه عددًا من المهام الإدارية والتحكيمية للأبحاث وغيرها من المشاريع العلمية، رحم الله علامة العربية الأستاذ ناصر الدين الأسد، وجزاه كل خير عما قدمه من فوائد جزيلة للعلم وأهله.

أكاديمية من الأردن*

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى