محمد أديب السلاوي: الثقافة تعاني من الإهمال والتهميش وعدم المبالاة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*حميد عقبي
المصدر / القدس العربي
محمد أديب السلاوي شخصية أدبية إعلامية، فنية وفكرية، نصف قرن من الإبداع وأكثر من أربعين كتابا في مختلف المجالات الثقافية والفنية، شعرا، مسرحا وفنا تشكيليا. يمضي السلاوي حياته في الكتابة والبحث والنشر، من دون الاكتراث بالماديات تداهمه اليوم ظروف المعيشة فيجد نفسه من دون معين ليس له راتب تقاعدي ولا تغطية صحية، يتقدم بطلب منحة ملكية ينتظر الرد الذي يأمل أن يأتي ليحفظ له كرامة العيش بعد سنوات طويلة من العطاء الفكري والأدبي. وفيما يلي نص الحوار الذي أجراه الزميل مع الأديب المغربي محمد السلاوي في باريس.
○ كيف تصف لنا الواقع الثقافي في المغرب العربي؟
• للثقافة في بلدان المغرب العربي، حضورها المتميز في التراث المعماري/التراث الموسيقي/التراث الاجتماعي، ولربما في التراث الديني أيضا، ولكنها على أرض الواقع في الخطط والسياسات ما تزال تراوح في مكانها من دون أي تغيير، إن مقعدها ما زال شاغرا حتى الآن، وهو ما يعني أن الثقافة بعد حوالي ستة عقود من الاستقلال، ما زالت تعاني في السياسات الحكومية من الإهمال والتهميش وعدم المبالاة، إذ أن التوجه الرسمي ما يزال يسخر بعض المظاهر الثقافية لتكريس المسلكيات السلبية ذاتها لمحاربة الطموحات الهادفة إلى التغيير وتجاوز الإحباطات المتتالية في شتى المجالات الثقافية. وذلك عوض أن يجعل هذا التوجه الحكومي من الثقافة أداة للتنوير وتنمية الوعي، وترسيخا لقيم الاعتزاز بالذات الجمعية المتأصلة في عمقها التراثي المشرق والمنفتحة في الآن على الحداثة ومستجدات العطاء الإنساني.
إن السياسة الثقافية تعني الخط الفكري الذي تحتضنه الدولة لحماية هويتها والدفاع عنها، وتعني أيضا الغذاء الروحي الذي تقدمه الدولة لمواطنيها، من أجل تقوية روابطهم التربوية والأخلاقية والسياسية بهذه الهوية. لذلك كان الأمل وما يزال أن تدرك دول المغرب العربي الأهمية القصوى للسياسة الثقافية في بنائها القومي.
○ وضع المبدع المغربي مترد، هل الجهات الثقافية الحكومية، هي من يتحمل المسؤولية؟ ألا يمكن لوم العمل الجمعوي وتحميله بعض المسؤولية؟
• المتتبعون للحركة الإبداعية المغربية، يلاحظون بسهولة ويسر تردي هذه الحركة وتراجعها، ليس فقط على المستوى المادي، ولكن على المستوى الإبداعي أيضا، إذ وقع خلال العقود الثلاثة الماضية ما يشبه انهيار الشعر والموسيقى والآداب والسينما والمسرح والتشكيل وغيرها من الصنائع والبدائع، إذ تراجعت أسهم الأغنية واللوحة والقصيدة وغيرها من الإبداعات، بسب إفلاس السياسات الثقافية وتدني مفاهيمها للعمل الإبداعي.
من المؤسف القول إن ما أصاب العمل الإبداعي في المغرب الراهن من ترد، من السينما إلى المسرح، ومن التشكيل إلى الموسيقى، ومن القصيدة إلى القصة والرواية، هو ما أصاب ويصيب نقاد هذه الفنون الذين أصبحوا يتهربون عن قصد أو غير قصد عن تقييم هذه الوضعية على ضوء السياسات الثقافية والإعلامية الفاشلة، بعدما أصابهم اليأس والقنوط.
في نظري، لا يمكننا لوم المجتمع المدني على هذه الوضعية لأنه بريء منها، ولأنه لا يملك أي وسائل أو إمكانات لتقييمها أو لإنقاذها، إن الأمر يتعلق بالسياسة الحكومية وحدها.
○ مسيرتكم حافلة بالعطاء في المجال الصحافي، حدثنا عن أهم المراحل، وهل تخللت هذه المراحل انقلابات فكرية؟
• في حقيقة الأمر، إن سيرتي الإعلامية، وقد سجلتها بدقة في كتاب يحمل عنوان «أوراق خارج الأقواس» ليس بها ما يجعلها متميزة سياسيا أو فكريا، فهي سيرة مهنية خالصة، من دون انتماء سياسي. لقد عملت لفترات طويلة في الصحف الحزبية والمهنية، كما عملت في المؤسسات الحكومية المغربية أو الدولية، كمستشار إعلامي تقني، بعيدا عن أي انتماء أو توجه.
كان هذا هو اختياري منذ البداية، أما أفكاري ومواقفي، فكنت أحتفظ بها لكتبي ومقالاتي ودراساتي، التي كنت أعمل على نشرها في صحف ومجلات عربية ودولية. في تسعينيات القرن الماضي، قمت بما يشبه الانقلاب في هذه السيرة، إذ انسحبت من العمل مع الجرائد الحزبية، وأصدرت جريدة أسبوعية تحمل عنوان «الجريدة الشعبية» للدفاع عن الداعية الإسلامي عبد السلام ياسين، زعيم جماعة العدل والإحسان، الذي كان محاصرا في بيته ولنشر سيرته ومواقفه السياسية والدينية، ومن خلاله الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان في المغرب الراهن.
طبعا لم أكن أنتمي إلى جماعة العدل والإحسان ولكني كنت مع حرية الرأي، وضد الحصار، وهو ما عرضني إلى مواقف محرجة مع وزارة الداخلية، كما مع بعض القادة السياسيين الذين كانوا على اختلاف مع أفكار وتوجهات الرجل المحاصر الذي أصدرت لأجله هذه الجريدة.
○ لكم انجازات وأبحاث وكتب منشورة ومترجمة، مع ذلك اطلعت على حوار لكم تشكون فيه صعوبة المعيشة؟
• كما وضحت من قبل، اشتغلت في العقود الخمسة الماضية مع صحف ومؤسسات إعلامية وحكومية، مغربية وأجنبية بالتعاقد، لم أكن خلالها أعمل من أجل التقاعد، بقدر ما كنت أعمل من أجل العيش ومن أجل المعرفة. وفي العقد الأخير، حيث أقفلت السبعين من عمري، وجدت نفسي بلا عمل، بلا أجر، بلا تقاعد وبلا تغطية صحية، وهو ما جعلني في وضعية صعبة.
نعم، أنجزت حوالي أربعين كتابا في المسرح والتشكيل والآداب والسياسة والنقد، حصلت على جوائز عربية ودولية، كرمني العديد من الجهات والمحافل داخل المغرب وخارجه، ولكن كل ذلك لا يضمن العيش ولا يغطي مصاريفي اليومية ومصاريف أسرتي الواسعة. وهو ما دفعني مؤخرا إلى طلب منحة للعيش من الديوان الملكي. وما زلت انتظر الجواب عنها… ولا أدري كيف ستكون النهاية. الكل هنا يعرف أن الكتاب لا ينقذ صاحبه من الجوع والعطش. والكل يعلم أن حالتي محرجة وفي حاجة إلى علاج… وعلاج سريع قبل فوات الأوان.
○ هل يمكن استقلال الإعلام ومنحه الحرية… ولماذا الخوف من الحرية؟
• الحرية كانت وما تزال عشق الإنسان في كل الأزمنة والأمكنة، ولكن على طول التاريخ وعرضه، لم يستطع الإنسان تحقيقها بالكامل، ظلت باستمرار عنوان حياته، هي حقيقته الثابتة، ومن ثم ظلت أمله، بل هي أمل وجوده.
إعلاميا، ناضلت أجيال الاستقلال، والأجيال التي قبلها من أجل حرية الإعلام، حرية التعبير، حرية الفكر، ولكن هذه النضالات على أهميتها اختلفت حول مفاهيم وقيم الحرية، فهي في نظر هذا الجيل تعني «الحرية جهادنا حتى نراها»، وفي نظر الجيل الآخر لا تعني أن يفعل المواطن ما يشاء أو يكتب ما يشاء، وفي نظر الأجيال الصاعدة، الحرية هي أن يتمتع الإنسان بالحقوق وقيامه بالواجبات، وهو ما جعل هذه الحرية موزعة على عدة مفاهيم… وبالنسبة للسلطات الحاكمة والمتحكمة، حرية الإعلام لا تعني لا هذا ولا ذاك، الحرية هي الالتزام بنصوص القانون، يجب التعامل معها بشروط القانون. وفي اعتقادي، أن نضالات هذه الأجيال، على أهميتها التاريخية والسياسية والفكرية، لم تستطع حتى الآن الإجابة على أسئلة الحرية.
هل الحرية هي تحطيم كل الطواغيت، هل هي إلغاء كل التابوهات أم هي الأمان على النفس والمال والإرث، هي حرية الرأي والتعبير، أم هي إطلاق الإنسان في ذاته؟
إن سؤال الحرية كان وما يزال هو الأصعب في كل المطارحات، لأجل ذلك سيظل محل نضالات متعددة الأهداف.
○ لديكم عدة أبحاث في الفن التشكيلي، هل هو بخير، ما هي أهم مميزات التشكيل المغربي في الزمن الراهن؟
• يواجه التعبير التشكيلي المغربي في الزمن الراهن، إشكالية أساسية، تتجسد في الموافقة بينه وبين الفنون المغربية التقليدية: المعمار/النسيج/النحت الحجري/الخزف/الصياغة، وغيرها من الفنون التي شكلت لزمن طويل هوية ثقافية لا خلاف ولا اختلاف في أهميتها الثقافية والحضارية.
وقبل أن نحاذي هذه المنطقة الساخنة من الحركة التشكيلية المغربية، لا بد من الإشارة هنا، إلى أن اللوحة التشكيلية المغربية الحديثة، استفادت من التراث الجمالي المغربي (الأمازيغي/الأندلسي/الإسلامي) فهذا التراث سيظل بلا شك، قيمة مرجعية للفن التشكيلي الحديث بالمغرب الحديث… وسيظل عنصرا أساسيا في تحديد مفاهيم هويته، حتى إن كان العديد من الفنانين المغاربة – في الزمن الراهن – يستندون في أعمالهم الإبداعية إلى رؤية جمالية غربية. هكذا يمكن التأكيد، أن الفنان التشكيلي المغربي، وبعد أن حقق حضوره الثقافي، وبعد أن جرب خلال القرن الماضي كل أشكال التعبير التشكيلي الحديث بصيغه الغربية المختلفة في سبيل التواصل مع البصر العالمي، نجده يعود إلى تراثه الماضي لينتقي منه مدارسه ومذاهبه وتعبيراته التشكيلية، من أجل تأسيس مدرسة مغربية بكل قيمها الجمالية، وقد تكون تلك هي ميزته الإنسانية في الزمن الراهن.
○ هل للفن التشكيلي اليوم القدرة على الصمود في ظل تطور مدهش لتقنيات التصوير وما يحمله المستقبل التكنولوجي من سحر مرعب؟
• بداية لا بد من الإقرار بأن الفن التشكيلي باعتباره لغة بصرية برموزها وخطابها وأدواتها التعبيرية، عاشت مئات السنين، ساهمت في بناء الحضارات المتعاقبة، أصلت تراثا إبداعيا لا يمكن نكرانه، يفرض علينا أن ننظر إليه بموضوعية وإيجابية.
وبحكم الوضع الذي يحتله هذا الفن في الحضارة الإنسانية، أصبح يتعرض إلى ما تتعرض إليه معطيات الفكر الإنساني من تيارات وتجاذبات وتبلورات، تتجدد وتتفاعل باستمرار مع بعضها بعضا، ومن ثم فإن وقوعه في هذه الحركية، سيجعله حتما في صميم فاعليتها التطويرية.
عندما نقر بهذه الحقيقة، نكون قد اعترفنا بقدرة الفن التشكيلي على الصمود في ظل التطورات التي عرفتها فعاليات الفكر والفن والثقافة والحضارة على جدارية التاريخ البشري.
○ لكم كتاب عن المسرح المغربي يحمل عنوان: «المسرح المغربي من أين والى أين…؟» نشرتموه في نهاية ستينات القرن الماضي، لو طرحنا عليكم اليوم هذا السؤال، هل ما زلتم تتابعون الحركة المسرحية؟
• طبعا ما زلت أتابعها…وعن قرب. ومنذ «المسرح المغربي من أين إلى أين؟» الصادر عن وزارة الثقافة بدمشق سنة 1967 إلى اليوم، أصدرت أربعة كتب أخرى عن أب الفنون، آخرها كتاب «المسرح المغربي، جدلية التأسيس» الصادر عن دار مرسم السنة ما قبل الماضية. والمسرح المغربي منذ نشأته في ثلاثينيات القرن المنصرم إلى اليوم، شكلت مسيرته تاريخا وتراثا لا يمكن نكرانه أو غض الطرف عنه، فالعديد من الأسماء التي ركبت هذه المسيرة أعطت هوية متميزة لأعمالها ولتاريخها، والعديد من هذه الأسماء جذرت طموحاتها الفكرية والإبداعية في الطموحات الثقافية، وهناك أسماء مسرحية مغربية انتقلت بأعمالها وحضورها إلى التراث العتيق للمسرح العربي، نذكر من بينها: محمد القري ومحمد الحداد، والطيب الصديقي واحمد الطيب العلج، وعبد الكريم برشيد ومحمد تميد، ورضوان حدادو، وعبد الحق الزروالي، وعبد الله شقرون، وغيرهم من الأسماء التي تشكل لنا محطات وازنة لهذا التراث، أسماء اشتغلت في عملية بحثها المسرحي، جل الإمكانات الفنية/التقنية المتاحة، لإزالة الغبار عن الموروثات الأدبية والتاريخية والاجتماعية، ولإعطاء الحركة المسرحية المغربية حضورها الإيجابي على الخريطة العربية، بعدما قامت بعمليات جراحية على القلب المسرحي، أبهرت المنتوج العربي في المشرق والمغرب.
مع الأسف، تجد الحركة المسرحية المغربية نفسها اليوم محاصرة بالكثير من السلبيات، ولكن هذا الحصار لا يمكنه أن يدوم أو يستمر، لأن وعي هذه الحركة، أكبر من الحصار، وأكبر من الذين يصنعونه لها.