محمد السرغيني… محمد الميموني وعبد الكريم الطبال: رواد الشعر المغربي وحالموه الكبار الذين استغرقتهم الرؤيا وما زالت!

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد اللطيف الوراري

 

لمّا تعرّفتُ على الشعر، وأنا بعدُ طالب في الثانوية، كنتُ مسحوراً بدواوين الشعر، روائح ورقها، صغر حجومها، وطرق توزيع أبياتها على الصفحة الشعرية.

لكن ما كان يشدُّني إليه أكثر هو أغلفة الدواوين إِذْ كانت تذوب في مشهدٍ طبيعيٍّ، أو تعبير تصويري حسّي، أو لوحة ذات منحى انطباعي وتجريدي، أو رسم تستغرقه أجواء الرومانسية الجارية في ذلك الوقت؛ إلى أن لفت انتباهي وهزّ قناعتي الجمالية غلاف لوحة «الطريق إلى الإنسان» لعبد الكريم الطبال. وقد أوحى إليّ بفكرةٍ خطيرة هي أنّ الشعر لا يمكنه أن يكون دائماً تعبيراً عن شعور نفسي أو داخلي يهم الذات الفردية للشاعر، أي أن يكون خالقاً لحالة صدام، مفارقة، مواجهة مع عالم ليس أكثر أماناً واطمئناناً كما كنت أزعم.

هذه سياسة الشعر، وهي التي خلقت في وعيي سيميولوجيا جديدة. ذلك ما أدركتُهُ في ما بعد. ففي سياق تعرُّفي على الشعر المغربي الذي بالكاد كنّا نعثر على دواوينه ضمن كتب الأدب التي كان أغلبها يفِدُ من الشرق، أُتيح لي أن أطّلع على مجاميع شعرية مغربية أولى، وفي مقدمتها مجاميع الشعراء الرواد. 

هم ثلاثة شعراء رواد لا يزال عطاؤهم الشعري متواصلًا وعابرًا للأجيال منذ عقد الستينيّات، بقدرما تُمثّل تجاربهم، بعكس مجايليهم، حقل إلهام مدهش باستمرار؛ فإنَّ تجربة كلّ واحد منهم تختصر ما في معنى الشعر وكتابته من مكابدة وصبر وشغف دائم بالجديد، ومن تعقيد وثراء وتشعب أخاذ: عبد الكريم الطبال، محمد الميموني ومحمد السرغيني. هؤلاء الأساتذة يلتقون في كونهم أبناء جيل واحد، وفي أن الشعر رؤيا، صوفية أو إشراقية، بسبب ما خبروه من فكر وساحوا في شعابه وأخاديده، وفي التأثُّر بالجوّ الحضاري الجارف الذي صادف في نفسهم ميلًا إلى التأمُّل برويّة والتفكير في الجوهريّ مُطلقًا. لكنّ سبل القصيدة تفرّقت بهم في حوار أيٍّ منهم مع نفسه وتأمله للطبيعة والعالم من حوله.

 

* * *

 

يتعقّب عبد الكريم الطبال، ابتداءً من ديوانه «البستان» (1988) فصاعدًا، سوانح الرؤيا عبر قصيدة ذات نفس شعري، فيلتقط مخايلها وأسرارها في تفاصيل الحياة الصغيرة ومفردات الطبيعية المنسية، بكثافة شديدة وشفافية عالية وذائقة فنّية قادرة على أن تختزل الموقف في لقطة عابرة أ وفي تفصيل عابر يجعل من وعي الأنا بما حواليه بؤرته الحادّة. وهو، بهذه المعاني، الشاعر النسّاج الذي لا يغزل فحسب، بل يتابع ببصره وبصيرته ما يقع منه ويضعه في نسيج اللغة، ببساطة مدهشة. 

في سيرته الذاتية «فراشات هاربة»، تثوي مصادر التجربة الشعرية لعبد الكريم الطبال وينابيعها الحيوية، بله توازيها وتخترق بناءها. وأهمّ هذه المصادر، هي: الطبيعة، الأم، المحيط الصوفي، الإرث الرومانسي العربي (المهجر، أبوللو) الذي توافق ونبرة التبرُّم لديه وحس تمرُّده على واقع القبح ومجاوزته، حتى قال بلهجة عرفانية: «ومن المؤكد أنني منذ أن كتبت القصيدة الأولى عقدت مع الشعر ميثاقًا يشبه ميثاق القيثارة مع النوح أو ميثاق الفراشة مع النار، إن انجرحتُ انجرح، وإن انتشت انتشى، فأناي أناه وسواي سواه. ومع كل كتابة لاحقة كنت أنشد دائمًا تأكيد هذا الميثاق بشبق الغواية وجنون الجذب، فأعرج مرة – وأنا في حضرة الكتابة إلى سماء بعيدة علّني أنصعق ذات دهشة بومض يشع من شبح يشبه جسده القمر الغامض السابح هناك. وقد أغوص في بحر قصي علّني أرى في الأعماق صورة تشبه روحه النورانية الشفيفة فأثمل حتى الجنون». (ص74-75)

 

* * *

 

بينما ينحو مجايله الشاعر محمد الميموني، ابتداءً من ديوانه الثاني «الحلم في زمن الوهم» (1992) فصاعدًا، منحى خاصًّا به في الذهاب إلى الرؤيا، وهو يتّخذ من الحُلْم ذريعةً بما يسمح له بأن يُفكِّك مسلمات لغة الإيديولوجيا التي كانت تحتمي بها أنا الشاعر، فيعيد بناءها وفق منطق الرمز والتمثيل الكنائي الذي يتسلّى مع النظام بقدر ما يُفجِّره من الداخل. حفز الذّات على الحلم يُشكّل، بالنسبة لتجربة محمد الميموني الشعرية، مشروع تخطٍّ أو تجاوُزٍ لزمن تتعإلى فيه الأدخنة والحُجُب، كما يُقْدرها على استعادة البعيد والمحلوم به والهاجع في لاوعي الطفل الذي كانه، استعادةً تتمُّ عموديًّا ومن الصميم. 

عبر الحلم واتخاذه ذريعةً في الكتابة، بوصفه كشفاً وانكشافاً للغة، ثُمّ تجاوزاً لوعي الأنا بالحاضر، يتجلّى لنا تصوُّر الشاعر للقصيدة، القصيدة- الحلم، القصيدة التي لا تنتهي إذ هي على الدوام في «رحلة كشف»، مُبْحرةً في «مسلّة الكلمات»، وباعثةً لأشواق الأنا وإشراقاته. ويتجلّى هذا التصوُّر، ميتالغويّاً، في نصّي «موكب القصيدة» و»القصيدة»، وهما ـ في الحقيقة- يُحدّدان من الآن المسار الذي ستشقُّه تجربة القصيدة عند محمد الميموني، ونكتشفه ابتداءً من ديوان «طريق النهر» (1995)، إذ انعطف الشاعر بالتجربة نحو مستوى الأسطورة الشخصية.

لقد شكّل ديوان «الحلم في زمن الوهم» علامةً فارقةً، أو برزخاً بين مرحلتين حاسمتين:

أ ـ مرحلة التأثُّر الإيديولوجي من غير استغراق ولا تشبُّع؛

ب ـ مرحلة اصطراع الوعي الجمالي للتجربة بين مقترحين؛

ج ـ المرحلة الإشراقية حيث ترتفع أنا الشاعر بأشواقها وأحلامها وتجاربها، داخل متاهة التأويل والكشف والانخطاف، إلى مرتبة «اليوتوبيا». يوتوبيا الأنا. وهذه المرحلة هي الأعمق والأصفى التي استقرّ عليها الحلم ونوّع عليها كتابيّاً.

إنّ شاعراً مثل محمد الميموني لا يكتب الشعر وكفى، إنّه يحلم عبر شعره بقدر ما هو يضيء جوهر الحياة ويجعلنا قادرين على الانفعال بها. فلا نلمح في الشعر الذي يكتبه سوى شعر التجربة نفسه حيث لا يد على ذات الشاعر، الذات المُفكّرة والمنفعلة بما حواليها.

 

* * *

 

في مقابل لغة شعرية سلسة وبسيطة وشفّافة ذات وهجٍ صوفيٍّ وإشراقيٍّ كما لدى الطبال والميموني، نعثر عند الشاعر محمد السرغيني على لغة مفارقة تمامًا، تنحو في أحايين كثيرة إلى سمات التشعب والوعورة والإعضال الدلالي. لقد انحاز هذا الشاعر مُبكّرًا، بتأثير من خلفيّته الفلسفية والصوفية، إلى الاشتغال على اللغة، لغة الرؤيا بما هي فيض وحدوسات وتأتِّيات مباغتة، خارقًا نسقها الدلالي المعتاد عبر آليّات التوليد والانزياج والتجريد المشعرن. مثل هذه اللغة التي خبرها ولم يأْلُ جهدًا في المعاناة معها/ معاناتها، لم يعد يهمُّه فيها الإفهام، ولا تطويع صيغ الشكل المطروقة لأجل التعبير، ولا أن يتصوُّرها كركام من الاسقاطات والتكرار كما حصل. 

اِبْتداءً من عمله الشعري «بحار جبل قاف» (1991)، ووصولًا إلى «احتياطي العاج» و»تحت الأنقاض فوق الأنقاض» (2012)، وجدنا الشاعر ما فتئ يبحث لمعجمه الخاص عن رافد جديد بعد أن يستنفد ما سبقه أغراضه. فبعد الرافد اللغوي التراثي والصوفي، ثُمّ بعد أن تعامل مع اللغة تعاملًا دلاليًّا (سيمانتيكيًّا) عبر الرمز وواقع الممارسة اللغوية اليومية، يُجرِّب الشاعر كتابة الشعر بلغة بدائية لا تهتمّ أكثر بالعلاقات التركيبية والمورفولوجية (حروف العطف وأدوات التوكيد، إلخ)، حتّى لا يكسب لغة الخطاب في الشعر طابعًا منطقيًّا، ويعيق دفق الشعر وأتيّه؛ لأنّه كلما بطلت جدوى الروابط اللغوية أُتيح للصورة الشعرية أن تبتعث قصيدة معبرة، لا أن تكون مركّبة أو متداخلة. 

حَذِرًا من الانحدار في هوة التفكير باللغة، ومن استهلاك اللغة على أنها نماذج استهلاكًا فجًّا، لا يتعامل محمد السرغيني مع التصوف كمعجم، بل كحضور يتوالد لحظة الكتابة، ويترعرع بعدها، ممّا يسمح باستبطان الأشياء بعفويّة، ويجعل البديهة متوقّد تهب اللغة جذوة الحياة، لا أسيرة بهرج وقيد أنماط مكرورة. عبر الرؤيا في تجلّياتها الصوفية والميتافيزيقية يتجاوز الشاعر مستوى الظاهرة البرّاني لينفسح أمامه المجال لخلق عالم مفارق يستند إلى جوهرنيّته هو نفسه، وفيه لا حوله. إنّنا بصدد تجربة وجودية بالمعنى الأنطلوجي للكلمة، وفيها يتحوّل العمل الشعري لديه إلى مزيج مدهش من المعارف، أو «الصنائع» بتعبيره.

لقد كانت تجارب هؤلاء الرواد، في انصرافهم إلى شعر الرؤيا حالًا ومآلًا، تتحرّك في لغة الإشراق بقدرما كانت تتمُّ داخل سجلّات الإيقاع العروضي- التفعيلي، إذ كانت كلّ تجربة تنتسج بعدها التلفُّظي من عبورها للإيقاع محسوسًا، مرئيًّا، متقطعًا وغير مدرك. من ذات إلى ذات. وتلك مسألة أخرى.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى