محمد الشيخي: يجب التركيز على المنجز وليس بطاقات التعريف الوطنية للشعراء!

عبد اللطيف الوراري

محمد الشيخي شاعر مغربي وأحد شعراء جيل السبعينيات. ظهرت أولى نصوصه الشعرية في هذا العقد الذي ترك حساسيّته على نفسه، حيث علا الشعار الإيديولوجي ومازج الروح الرومانسية الذي كان لا يزال يسكن غرف الشعراء ويمنّيهم بالعالم البديل الذي حلموا به. في مجموع أعماله الشعرية، ابتداءً من «حينما يتحول الحزن جمرا» (1983) و»وردة المستحيل» (2002) ثُمّ «فاتحة الشمس» (2015)، نجد عند الشاعر محمد الشيخي رغبة متواصلة في القطع مع الوظيفة التغييرية للشعر، والانشغال بأسلوب شعري خاص به يزاوج بين الذاتي والرمزي، والشعري والحكائي على نحو يفتح ذاكرته على أصوات وصور مقبلة من زمن جميل مثل ذلك الزمن الآتي من الأندلس، حيث «الحلم المستحيل» الذي تلوذ به ذات الشاعر من بؤس الواقع وخيبات التاريخ.

■ ماذا بقي من جيل السبعينيات في الشعر المغربي الذي تنتمي إليه؟
□ بقي من هذا الجيل خير كثير! أرى أن مسألة الجيل تتطلب من الباحث الرصين والمتتبع الذي له إلمامٌ كافٍ بالمعرفة الشعرية ـ وخصوصيتها وسياقاتها المتعددة ـ نقاشا موضوعيا إذا أراد تحديد البدايات ورصد مسيرات وتحولات التجربة أو التجارب الشعرية. إن الذين عملوا على تطوير القصيدة خلال هذه الفترة من القرن الماضي مع زملائهم الذين أسسوا صرح القصيدة المغربية في الستينيات، فأغلبهم ما زال حيًّا يشارك كل واحد منهم حسب قناعاته الفنية والفكرية في مسيرة المغامرة والتجريب والتحول، ويمثل وجها مضيئا في فضاءات الشعر الغني بتعددها وأشكال الخيارات والاختيارات الفنية والرؤيوية. وتبقى المنجزات النصية المرجع الأول والأخير لتحديد الشعرية أو الشاعرية المنشودة، والتأكد من مصداقية التنظيرات والبيانات المقاربة للمسألة الشعرية. كما أن شعراء السبعينيات لم يكتبوا في حقبة السبعينيات قصيدة واحدة، ولم يكونوا مدرسة لها أصولها وقواعدها المقررة، فلكل واحد كانت له تجربة خاصة في التعامل مع الشعرية ضمن تجليات الشكل والرؤية. وهذا يجعلنا لا ننسى أن مبادئ أساسية كانت تجمعهم كالسعي نحو تطوير القصيدة، والتجديد، والموقف الملتزم، والانخراط لاحقًا في مغامرة التحول ومغامرة التجريب وإنتاج الجمال.
■ ظهرت أولى نصوصك الشعرية في بحر السبعينيات من القـــــرن المنصرم. ما أثر هذه الحقبة التي علا فيها الشعار الإيديولوجي على شخصك كما يتجلى في ديوانيك: «حينما يتحول الحزن جمرا» و«الأشجار»؟
□ كان لها أثر كبير على شخصي وشعري؛ فقد بدأت في نشر قصائدي الأولى في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وكانت هذه الحقبة – حقبة الستينيات والسبعينيات – على المستوى الفكري والسياسي والأدبي مرحلة مخاض وصراع وقلق وتساِؤل وارتباط بقضايا الإنسان والوجود. وكان الشاعر الملتزم يتمزق بين تيارات فكرية وسياسية متعددة ومتناقضة، وكانت القصيدة عند الرواد الأوائل جيلنا تحاول أن تتلمس الطريق بقوة وثقة، على نحو حققت معه الكثير من النجاح على المستويين الرؤيوي والتشكيلي.
وقد تحدد في هذه الفترة الكثير من المفاهيم الفـــكرية والإيديولوجية والإبــــداعية التي تبــــناها الشعراء. وأصبح التصنيف أكثر إمكانا حسب المواقف المتخذة من قضايا الفكر والإبداع والسياسة. وبمعنى آخر، كان شعار الالتزام راسخا في ذهن مثقفي ومبدعي المرحلة، وكان الشاعر يناضل من أجل التغيير والثورة داخل المجتمع، وكذلك كان يجاهد من أجل تشكيل نص جديد مغاير لما سبقه على مستوى الإيقاع واللغة والصورة والتشكيل والرؤية.
■ ابتداء من ديوانك «وردة المستحيل»، نجد عندك رغبة متواصلة في القطع مع الوظيفة التغييرية للشعر، والانشغال بأسلوب شعري خاص بك يزاوج بين الذاتي والرمزي والشعري والحكائي، على نحو يفتح ذاكرتك على أصوات وصور مقبلة من زمن جميل. هل كان ذلك جوابا على خيبة حلمك من توالي انهيار المشروع الجماعي بالتغيير؟ وكيف صرفك ذلك إلى كتابة سيرتك شعرًا، حيث أنا الشاعر العاشق الذي يتذكر ويبتكر ما يتذكره؟
□ سؤالك يتضمن الجواب في الوقت نفسه. نعم، كان للخيبات المتكررة والمؤلمة، وانهيار المشاريع والتجارب الاجتماعية والفكرية أثر عميق على الجسد والروح، فقد فتح الذاكرة على ماض جميل وزمن طفولة متخيلين. كان هذا عودة شعرية، بل يمكن القول كان هذا بحثا عن لحظات هاربة وأحلاما جديدة ومتجددة باستمرار، والتطلع الشعري نحو اللانهائي وغير المنظور سعيا وراء وردة الشعر/وردة المستحيل. ورُبّما تكون عناوين دواويني خير جواب عن سؤالك: وردة المستحيل، ذاكرة الجرح الجميل، زهرة الموج، فاتحة الشمس. ولو سألتني مثلا عن مفهومي للشعر، لأجبتك: ليس عندي مفهوم محدد، فهو وردة المستحيل وطفولة الماء ولحظات خارجة عن المألوف كما أقول في نهاية إحدى قصائدي: «أبدا أمشي كما تمشي القصيدة». أو كما أقول في نهاية قصيدة أخرى: «أرسم وجه الصباح وأمضي».
■ وهذا ما يذكرني بكلمة جميلة كتبها الشاعر عبد الكريم الطبال عنك وعن قصيدتك، إذ قال: نعم إنّ القصيدة تمشي كما الظلال، كما الغيمات، وكما شجرة اللوز التي أزهرت حينما قال لها الشاعر: أريني كيف أرى الله. وكما تمشي القصيدة يمشي الشاعر معها قلبا إلى قلب لا يلويان على أي جهة».
□ نعم. أحس دائما أن الشعر يعيش معي، ويتنفس مع نبضات القلب واختلاجات الجسد. وأن القصيدة تجاهد للخروج إلى رحابة الحلم الجميل المستحيل، لتقاوم كل أشكال الخراب واليأس من أجل بزوغ عالم أكثر عدالة وجمالا وشعرا.
■ متى انتهيت إلى الأندلس كمرجع للكتابة؟ وهل يصح القول إن الفضاء الأندلسي غدا بالنسبة إليك ذلك الحلم المستحيل الذي تلوذ به من بؤس الواقع أو تنزل إليه بما يشبه العود الأبدي؟
□ الفضاء الأندلسي كان يعيش معي على مستوى الواقع والرمز. كما أن ديواني الأول «حينما يتحول الحزن جمرا» تتصدره قصيدة عنوانها (غرناطة)، وهذا يحمل أكثر من دلالة. فلغرناطة حضور بارز في تجربتي الشعرية، بل يمكن اعتبار هذا الحضور عنصرا أساسيا في تشكيل شعرية نصوصي، بل أغلب قصائدي كتبت في غرناطة. وما دامت غرناطة حاضرة في جميع محطات ومنعطفات تجربتي، فلا بد من مقاربة هذا الحضور بتتبع تردُّداته عبر المنعطفات الفنية وتحولات الرؤية والرؤيا. وقبل ديوان «وردة المستحيل»، كانت غرناطة أو الأندلس تستقر في المنطقة اللاشعورية بوصفها الجنة الضائعة، أو حلما ضائعا. وكانت الأنا الجماعية والموروث المشترك يطغيان على الذات الفردية وإيقاع الحياة اليومية وتفاصيلها الجميلة. كانت غرناطة تحضر كواقع ورمز لفقدان الوحدة أو التشتت الذي يسود العالم العربي، مع ما يرافق ذلك من توظيف التراث بوصفه عنصرا بنائيا يسعى إلى غاية محددة. وفي المرحلة الثانية من تجربتي، أصبحت غرناطة مكانا شعريا بامتياز كما أشار إلى ذلك بعض الدارسين الذين تتبعوا مسارات تجربتي الشعرية، من خلال شعرنة الواقع اليومي لغرناطة، حيث يشكل الخيال جوهر المكان الذي تعيد اللغة بناءه في سياق حلمي يتخذ أشكالا لا حصر لها. ومن جزئيات الواقع وتفاصيل المكان، يبني الشعر واقعا شعريا يتجاوز قشرة الواقع الحقيقي، إلى واقع شعري محتمل عن طريق الحلم والذاكرة والنظر إلى المكان عبر أبعاد مختلفة إلى حد أن يصبح المكان الواحد عدة أمكنة. ومن هنا، فإن القصيدة قد تبهر القارئ ليس بمضمونها السياسي أو الفكري أو الاجتماعي، لكن بما تحققه من إبداع من خلال الحفر في جماليات اللغة أو جماليات الخيال.
■ كيف ترافقت جدة الموضوع والثيمات في تجربتك الذاتية مع إعادة النظر في أدوات الكتابة لغة وإيقاعا ورؤية، وبالتالي ساهمت في تجديد القصيدة والتحرر من أسر التقليد؟
□ لا أدعي أنني شاركت بفعالية في عملية التحول الشعري التي انطلقت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ويمكننى أن أقول إن تجربتي الشعرية في مرحلتها الأولى بلغت أقصى مداها. فبعد صدور ديواني الثاني «الأشجار» (1988) تولد عندي إحساس قوي بأنه آن الأوان للدخول في منعطف شعري جديد ومتجدد باستمرار، بعد أن بدا لي أن ثمة تحولا عميق الأثر بدأ في عقد الثمانينيات وترسخ أكثر في التسعينيات. ومع هذا التحول الذي شمل الكثير من القضايا والمفاهيم، أصبحت الكثير من المسلمات موضع تساؤل وإعادة نظر. وشهدت مجالات الفكر والإبداع والسياسة والاجتماع تحولات عميقة وجوهرية خلخلت بدورها الكثير من المفاهيم والمواقف الفكرية والفنية، ولم تعد وسائل التعبير التي تعودنا عليها مقنعة لمقاربة التحولات الآنفة الذكر. ومن ثمة، أصبحت القضايا المرتبطة بطبيعة الشعر ومفهومه ووظيفته موضع نقاش وإعادة نظر. على المستوى الشخصي، فضلت التوقف عن الكتابة بضع سنوات، قبل أن استأنف الكتابة والنشر وأصدر ديواني «وردة المستحيل» (2002). وأنا أعتبر نفسي شاعرًا مُقلًّا بالفعل والقول، كنت وسأظل كذلك ـ ولا أعمل على نشر إلا ما يقنعني، أو أحس أنه يفتح مجرى جديدا أو متجددا في مسيرتي الشعرية المتواضعة. وأنا بكل بساطة إنسان مهووس بالصمت الصاخب الجميل، الذي يمهد للعاصفة الأكثر جمالا وروعة. وإذا كانت وظيفة الشعر كما كنا ننظر إليها – أنا والجيل الذي أنتمي إليه – مرتبطة بحركة الثورة والمجتمع، فإنها تحولت أو تحول بالأحرى مفهومها النزّاع إلى تغيير النفوس ونشر المحبة وقيم الجمال والتعايش والتركيز على شعرية النص وشاعريته المحببة.
■ هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة ؟ وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
□ فاجأني هذا السؤال، لأنني لم أفكر يومًا فيه. في الواقع ليست هناك حالة واحدة أو طقس فريد. أكتب غالبا في صمت الليل، لكن يمكن أن أكتب وأنا في وسط الزحام، أو وأنا أشاهد التلفزيون، أو أنصت إلى الموسيقى أو أصيخ الســـمع لضجـــيج المارة وضجيج الســـيارات في الشارع. لكني لا أختار وقت الكتابة أو الشروع في كتابة القصيدة، إلا أن حالة غريبة تنتابتي فجأة فأشعــر أنني أكتب وأنكتب، وأن جسدي كله يتحرك على إيقاع قصيدة مقبلة. نعم، أعود مرات للقصيدة من أجل تنقيحها أو إعدامها إذا لم تحظ برضاي، وإن كان هذا قليلا ما يحدث.
■ في ســــياق اهتمامك بالشـــــعر المغـــربي المعاصر، كيف تنظر إلى واقع الشعر راهنا؟ وهل استطاعت القصيدة أن تتمم مشروع التحديث والمغايرة إلى اليوم؟
□ أنظر بإيجابية وارتياح إلى واقع الشعر راهنا، والساحة الشعرية اليوم تعجُّ باتجاهات وتجارب وحساسيات شعرية متعددة من أجيال مختلفة، تلتقي وتنفصل في آن. لا أقول إن القصيدة الراهنة تمت وإنما آمنت بالمغامرة والتحول والتجريب بحثا عن الأبهى والأجمل والمدهش، والشعر لا آخر له. يجب أن نركز على المنجز النصي في قراءتنا أو مقارباتنا النقدية من زوايا مختلفة مستندين إلى معرفة شعرية خلاقة، حتى نبتعد عن النقاش المضيع للوقت والشعر معا، بإثارتنا ـ مثلا ـ مسألة قصيدة موزونة وقصيدة نثرية. فهناك الشعر الجميل، وهناك الرداءة بجميع أشكالها، وقانا الله منها، سواء التزمت هذه الأوزان أو ألغيتها أو استبدلتها بغيرها. أنا مع التعدد والاختلاف وضد الإقصاء. فليس كل ما ينشره الشباب شعرًا شابًّا، وليس كل ما ينشره الشيوخ شعرًا شاخ وأصبح في خبر كان. إنما الذي يجب التركيز عليه هو المنجز النصي بشعريته وشاعريته، وليس استنادًا إلى بطاقات التعريف الوطنية للشعراء.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى