مزامير داود نفحات من الزبور

منصف الوهايبي

«وكان داوُد إذا سبّح الله بهذا الكلام [الزبور] رفع صوتا حسنا لم يسمع مثله»
تاريخ اليعقوبي
يقول القرطبي:»الزبور كتاب داوُد، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حُكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هو حِكم ومواعظ». ويذكر القرآن أنّ النبي داود تلقّى هذا الكتاب من الله: « وآتَيْنا دَاوودَ زَبورا « (سورة الإسراء الآية 55، وسورة النساء الآية 163).على أنّ القرآن اقتبس من الكتاب المقدّس مرّة واحدة فقط، ومن كتاب الزبور تحديدا: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» (سورة الأنبياء الآية 105). وثمّة وشائج قربى بين القرآن والزبور، كما هو في سورة الرحمن والمزمور 136، وبين سورة النبأ ومزمور 104 الذي نتمثّل به في هذا العرض.
لم أجد أنمّ على هذا النصّ «مزامير داوُد» وأدلّ على شعريّته العالية، وأنا أوطّئ لقراءته وإنشاده، من كلمة «تقدمة» بشتّى معانيها ودلالاتها. والمزامير من أقدم كتب التقدمة والصلاة والتسابيح المعقودة على الشجن حدّ الضنى.
استأنست في هذا «التخريج» الشعري، بأكثر من ترجمة بالعربيّة والفرنسيّة، وعدت إلى أقدم نصّ عربي؛ وهو لحفص القوطي. ولكنّي لم أجد فيها ـ على أهمّيتها ـ سوى القليل ممّا كنت أَنشُده، أعني المزمور العر،بي كما رتّله أو أنشده قدماء العرب من المسيحيّين، وسماتِ أدائه الصوتيّة ووقفاته، وما يتعلّق منها بمخارج الحروف وصفاتها من همس وجهر وشدّة ورخاوة وأحكامها. حتّى إذا وقع بين يديّ كتاب حفص القوطي «المزامير» أو «الزبُور» في نسخته الفرنسيّة والعربيّة، أدركت قيمة هذا التراث الأدبي الذي يقع في الهامش من مشاغلنا الأدبيّة والثقافيّة. وحفص هذا كان قد تسنّم كرسيّ قاضي عجم الأندلس في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، وهو أحد كبار المستعربين الذين نقلوا تراث شعبهم إلى العربيّة الفصحى شعرا ونثرا. ومنه المزامير التي أدارها على الرجز في خمسة آلاف وخمس مئة شطر. وكان هدفه عندما ترجمها سنة 276هـ/889م، أن تحلّ محلّ النسخ النثريّة المتداولة في عصره.
على أنّي لم أسع إلى تجنيس هذا النص «المزامير» بهُويّة «الشعر» أو بهُويّة «النثر»، وإنّما قمت بتخريجه وصياغته بلغة الشعر؛ وواضح أنّ التخريج ليس تحقيقا. والنسخة المخطوطة وهي الوحيدة في حدود علمي، هي تلك المنسوبة إلى حفص القوطي.
يبدو لي أنّ «المزامير» نصّ تروي فيه لغته سيرتها، ترويها في الظاهر، ضمن إيهام القارئ بأنّ النبي الشاعر إنّما يؤرّخ لتدرّج اكتسابه ملكة اللغة وتناضج قدرته على الكلام. ولكنّي أتأوّل الأمر على غير ظاهره؛ ولا مسوّغ لذلك سوى أنّ اللغة تتبدّى في «المزامير» وقد احتلت موقع الكاتب لتغدو كاتبة ذاتها وهي تكتبه هو.
ولذلك أتأوّل «المزامير» على أنّها تبديد للوهم الماثل في أنّ الإنسان يتدبّر أمر كينونته وينضجها على نار أصواتها وتراكيبها ومفاصلها، فكلّما أحبّ كانت هي التي تحبّ؛ وكان المحبوب من جنسها أيضا؛ عسى أن يستحوذ على ما يخاله حقيقة. وقد سبق لنيتشه أن قال عن «الحقيقة» بأنّها حشد متدافع من الاستعارات والكنايات، ومن ضروب تشبيه الأشياء بالإنسان. ولكنّ المخلوق كان مكابرا فاستحوذ لخاصّة ذاته على ما للخالق: ألوهيّة اللغة وكونها رحم الخلق. على أنّها ليست خالقا متعاليا يقذف بمخلوقاته مرّة واحدة، وإلى الأبد، وإنّما اللغة خالق «ينخلق» هو نفسه في علاقة تضمّن بمخلوقاته.
تناظر فريد بين الخالق والمخلوق، ذاك الذي يجري بين اللغة والمتكلّم في هذه المزامير. بل هو تضمّن عزيز ذاك الذي يداخل به كلّ منهما الآخر، فإذا حبّة الشهوة تنغلق على طرف اللسان لحظة تنغلق في الجسد. وفي كلّ ذاك تكون سيرة المتكلّم سيرة اللغة نفسها. يتبدى لي إذنْ، أنّ «المزامير» هي اللغة إذ تكفّ عن أن تقول نفسها في خطاب دينيّ خالص، وإنّما تقول نفسها في خطاب إبداعي يلوي عنق الاستعارة على كتف المجاز، وتلتفّ فيه يمنى التشبيه بيسرى الكناية. لأقل هذا شعر يقول نفسه بغير لغة الشعر المألوفة.
إنّ التجربة الشعريّة لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي، كما يقول هنري ميشونيك. ماذا تعني كلمة شعر؟ أقدّر أنّ ذلك يجري بمنأى عن كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط بين الشعر وأبيات الشعر: إنّ مردّ البيت إلى الوزن، فهو تقنين شكليّ. وليس ثمّة أكثر سوءا من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هيغو يقول: «لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر»، وقبله قال ذلك أرسطو أيضا. ما أسمّيه قصيدا هو شيء ما يغيّر الحياة ويغيّر اللغة في آن، انطلاقا ممّا نعيشه. وأقدّر أنّ هذه مزيّة المزامير.
كلّ مزمور هو قصيد، وكلّ قصيد هو شكل حياة يغيّر اللغة، وشكل لغويّ يغيّر شكلا من أشكال الحياة. النصوص السرديّة العظيمة، هي عظيمة لأنّها تحمل قصيدا في مطاويها. والمزامير على ما يتهيّأ لي، تستمدّ إيقاعها أي تنظيم حركة الكلام الذي تؤدّيه ذات تقوم بتوزيع كلّ نظريّة اللغة لغة الشعر. على أنّه لا يفوتني أن أشير إلى أنّ اللجنة العلميّة من الأصدقاء الأجانب الذين راجعوا عملي هذا، وقد استغرق منّي حوالي ثلاث سنوات؛ التمسوا منّي حذف المزامير التي فيها «عنف»، باعتبارها «قنابل مخفية قابلة للانفجار في أوقات التوتّر الإثنية والدينية، وقادرة على أذيّة الناس…» وهو ما فعلت، فقد قمت بتخريج المزامير كلّها وعددها 150، ولكنّنا لم ننشر سوى 46 منها.

المزمور الرّابع بعد المئة

1 مِنْ كُلِّ كِيَانِي
أُسَبِّحُ اللهَ
اللهُمَّ يَا رَبِّي
مَا أَعْظَمَكَ
يا مَنْ تَحَلَّيْتَ بِالمَجْدِ وَالجَلالِ
2 لِبَاسُكَ النُّورُ
يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
أَنْتَ يَا مَنْ تَتَوَارَى وَرَاءَ حِجَابٍ
3 أَنْتَ الذي شَيَّدْتَ عَلالِيكَ فَوْقَ المِياهِ
أَنْتَ الذي جَعَلْتَ السَّحَابَ لَكَ رِكَابًا
أَنْتَ الذي سِرْتَ بِأَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ
4 أَنْتَ الذي اتَّخَذْتَ مِنَ الرِّيَاحِ رُسُلاً
وَأَلْسِنَةَ النِّيرانِ خُدّامًا
5 أنتَ الذي جَعَلْتَ لِلأرْضِ قَوَاعِدَ
فَلا تتَزَعْزَعُ أبدًا
6 أنتَ الذي كَسَوْتَ الأَرْضَ بِالغَمْرِ لِباسًا
فَبَلَغَ مَدَاهُ حَدَّ الجِبَالِ
7 لَقَدِ ابْتَعَدَ المَاءُ مِنْ زَجْرِكَ
وَفَرَّ مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ
8 وَغَطَّتِ الجِبَالُ وَغَاضَتِ الوِهَادُ
وَاسْتَقَرَّ جَمِيعُهُ أَيّانَ شِئْتَ
وَأَرَدْتَ
9 أَنتَ الذي جَعَلْتَ لِلبِحَارِ حَدًّا لا تَجُوزُهُ
حَتَّى لا يَطْغَى المَاءُ عَلَى الأَرْضِ
وَيأْخُذَهَا الطُوفَانُ
10 أنتَ الذي فَجَّرْتَ اليَنَابيعَ
فَجَعَلْتَهَا تَنْسَابُ أَنْهَارًا
وَبَيْنَ الجِبالِ تَجْرِي السَّوَاقِي
11 فَسَقَيْتَ جَمِيعَ الوُحُوشِ
وَرَوَيْتَ ظَمَأَ حَمِيرِ الوَحْشِ
12 وَسَكَنَتْ بِجِوَارِهَا الطُيورُ
وَغَنَّتْ عَلَى فرْعِ غُصْنِهَا المَيَّادِ
13 أَنْتَ الذي، مِنْ عَلالِيكَ
تَسْقِي الجِبالَ
وَتَرْعَى الأَرْضَ؛ حَتَّى تَكُونَ لَهَا كِفَايَتُهَا مِنَ المَاءِ
14 أَنتَ الذي أَخْرَجْتَ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ
المَرْعَى لِلبَهَائِمِ
وخُضْرًا لِلبشَرِ،
وقَدَّرْتَ لَهُمْ أَقْوَاتَهُمْ التي يُخْرِجُونَهَا مِنَ الأرْضِ
15 مِنَ الأَعْنَابِ يَتَّخِذُونَ سَكَرًا
تَفْرَحُ بِهِ قُلُوبُهُمْ
وَمِنَ الزَّيْتُونِ زَيتًا
يُضِيءُ وُجُوهَهُمْ
وَمِنَ الأَرْضِ
خُبْزاً يُقيمُ أَوَدَهُمْ
16 فَتَرْتَوِي أشْجارُكَ يا ربّ
وأَرْزُكَ الذي غَرَسْتَ فِي لبنانَ
17 حَيْثُ تَتَّخِذُ العَصَافِيرُ أَعْشاشًا،
والِلُّقلُقُ بَيتًا في السَّرْوِ
18 وتكونُ لِلوُعولِ جِبالُها الشَّامِخَةُ
ولِليَرَابِيعِ صُخُورُها
19 أنتَ الذي قَدَّرْتَ القَمَرَ مَنَازِلَ،
وَعَرَّفْتَ الشَّمْسَ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَها
كلٌّ بِحُسْبَانٍ
20 قَدَّرْتَ الظَّلامَ فَاسْتَوَى لَيْلاً
فيهِ تَسْعَى وُحُوشُ الغابِ
21 وتَزْأَرُ الأَشْبَالُ تَبْغِي رِزْقَهَا
22 وتُشرِقُ الشَّمسُ وَتَغِيبُ
فَتَعُودُ لِتَربُضَ في أَوْجَارِها
23 وَيَخْرُجُ ابْنُ آدَمَ إِلَى عَمَلِهِ
إذا تَنَفَّسَ الصُّبْحُ
وَحَتَّى المَسَاءِ
24 أَلا مَا أَعْظَمَ خَلْقِكَ يَا اللهُ
بِحِكْمَتِكَ جَبَلْتَهَا جَمِيعًا،
لَكَ الأرْضُ التي امْتَلَأتْ مِنْ مَخْلُوقَاتِكَ
25 وَلَكَ البَحْرُ وَاسِعُ الرِّحَابِ
الذي زَخِرَ بِحَيَوَانَاتٍ لا تُحْصَى
بِصِغَارِها وَكِبَارِها
26 حيثُ تَجْرِي الفُلْكُ في البِحَارِ
أَيْنَ يُقِيمُ التِنّينُ الذي خَلَقْتَهُ لِترْضَى به
27 مَكَّنَتَهَا كُلَّها فِي الأَرْضِ وَجَعَلْتَ لَهَا فِيهَا مَعَايِشَ
وَلَها رزْقُها فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
28 أنتَ الذي تَرْزُقُها بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَتَبْسُطُ يَدَكَ فتَشبَعُ خَيرًا
29 حَتّى إذا حَجَبْتَ وَجْهَكَ، فَزِعَتْ وارْتَاعَتْ
أَنْتَ الذي تَقْبِضُ أَرْوَاحَها فَتَمُوتُ،
وَإلى تُرَابٍ تَؤُولُ
30 أنتَ الذي تَنْفُخُ فِيها مِنْ رُوحِكَ فتُبْعَثُ
وَيَتَجَدَّدُ وَجْهُ الأرضِ
31 باقٍ وَجْهُكَ يا ذا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ
وأنتَ تَفْرَحُ بِمَخْلُوقَاتِكَ، وَتَسْتَبْشِرُ
32 مَتَى نَظَرْتَ إلى الأرْضِ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَمَتَى مَسَسْتَ الجِبالَ، صَارتْ دُخانًا
33 للهِ نَشِيدِي الذي أُزْجِي
أنا الذي أُسَبِّحُ رَبِّي مَا حَيِيتُ
34 عَسَى يَطِيبُ لَهُ نَشِيدِي،
فَأَفْرَحُ كُلَّ الفرَحِ باللهِ
35 وَأَدْعُو
اللهمَّ اقْطَعْ دَابِرَ الخَطَّائِينَ، مِنَ الأرْضِ
وَلا تُبْقِ عَلَى الفَاسِقِين
مِنْ كُلِّ كِيَانِي أُسَبِّحُ اللهَ! سُبْحَانَكَ يَا اللهُ!

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى