«مقاش» سيرة روائية لما وراء يوميات أسيرة وسيرة احتلال… سهام أبو عواد تفرد جناحي قضية فلسطين رغم الأصفاد

الجسرة الثقافية الإلكترونية
المصدر: القدس العربي
«لا شيء يجعلك حرا كالأسر» مقولة على مفترقات طرق»
«مقاش» أو «قانون اللو لطفولة محرومة» هو الإصدار الأول للكاتبة الفلسطينية سهام أبوعواد، الإصدار أيا كان توصيفه، كعمل روائي، أو روائي سردي، كما أشار كل من الناقد الأردني محمد سمحان في تقديم الكتاب، أو رؤية الناقد الأردني ماجد المجالي، إلا أن الإصدار يفتح بوابات من الأسئلة على جدران متقابلة للقضية الفلسطينية، تماما كما الاسم – تعني كلمة «مقاش» الطبق أو الصينية المقسمة إلى خانات يوضع عليها الطعام لتوزيعه على السجناء في سجون الاحتلال الصهيوني- غير أن تلك الجدران في الرواية، والواقع أيضا، تأخذ شكلا ومعنى مختلفين، وفقا للزاوية التي تشاهد أنت منها تلك الجدران، وهو من نوع الحكايات السردية لوقائع فلسطينية يومية من سيرة الاحتلال والاعتلال، غير أنها تأخذ بعدا عميقا عبر تسليط الضوء على مربع سيرة واحدة ليوميات أسيرة، ومن ثم تتفرع التفاصيل والأسئلة نحو كل ما يتصل بالأسيرة من أسرة وتداعيات لطفلة وجدت نفسها أما وطفلة في آن، عندما اقتيدت الأم المؤمنة بحق شعبها إلى ما وراء القضبان، هي بعض من تفاصيل قصة الأرض والشعب والمحتل وما بينهم من مسارات وحروب.
الكتاب الموسوم بـ«سيرة روائية» والصادر مؤخرا في 160 صفحة من القطع المتوسط عن دار دجلة في العاصمة الأردنية عمان، هو ذاكرة وثائقية ونضالية وحياتية بامتياز لأسيرة فلسطينة، هي فاطمة أم عواد أو (أم يوسف) كما أطلقت عليها ابنتها الكاتبة والناشطة سهام أبو عواد، وأنا أعني هنا أن الشخصية المحورية في السردية الروائية قد تبدو هي الأم، ولكن الكاتبة نجحت في ان تجعل كل أفراد أسرة الاسيرة شخصيات محورية متصلة بأساس القضية الفلسطينية.
وأشير هنا إلى مشهد صغير لحظة اعتقال الأم من وسط أطفالها، حيث توثق الكاتبة المشهد «نصف قلبي هوي مع أمي إلى الأرض، حين صفعها الكابتن فريد على وجهها ونصف قلبي الآخر مازال يستذكر حتى اليوم دمعات أخي علي، الذي عض جفناه على غيظه مبتلعا الدمعة التي ثارت داخل صحن عينيه، وكأن ضلوعه تهشمت فسقطت في قلبه الذي أوقدها». وتمضي في وصف المشهد ذاته من أبعاد فنيه فوتوغرافية مدهشة، «في الزاوية الأخرى وقف أبي مرغما بينما صوبت إليه ألف بندقية، في حين خرجت الشقراء وهي تقتاد أمي بعد أن مدت معصميها للقيد متحدية جبروته! وهي مكبلة بأصفاد مازالت خشخشتها ترن في رأسي حتى اللحظة، اقتادها وآثار كفها على خده تفضح وحشيته. على الباب وقفت أمي ثم استدارت وابتسمت لم تقل شيئا ولم تودعنا، لكن ابتسامتها كانت تقول (أنا أثق بك يا سهام)».
ومن هنا بدات الطفلة الأم سهام في تعزيز ثقة الأم الاسيرة، ورغم كل الأعباء الثقيلة على الصغيرة راعية الصغار، إلا أنها وجدت لها طريقا للتواصل مع أمها في البعيد هناك، حيث يشابه عمرها وحلمها وحنينها إلى أمها، فكانت الفراشات الملونة هي الكائن الوحيد الذي يجتاز الحواجز العسكرية والأسلاك الشائكة وشبابيك الزنزانة، وأنها قد تحمل الأخبار فوق جناحيها كما تحمل غبار الطلع للزهرات».
فصول يصعب فصلها
خلال تقسيمات الكتاب إلى أحد عشر فصلا، إلا أن مسحة افتقاد الأمان والحنان تبدو بائنة ومرسومة في واقعها الحزين الخاص بيوميات الأسر وطول الانتظار، وهو الانتظار ذاته الذي تشير إليه الكاتبة وتصفه، الطريق إلى السجن، طويل بحجم انتظاري، وفي مشهد ثان تقول الطفلة الأم في لحيظات افتقادها للأم الأسيرة «أدرك حينها كم هي عاقر كل الأمنيات حين تحمل كلمة «لو» فلو كانت أمي هنا، وبهذا أصبحت لي رحلتان سريتان جعلتا لروتين يومي معنى آخر رحلة الفراشات المناضلة ورحلة إلى زاوية الدرج حيث مربع أيام البعاد».
ضد الإذلال
كل تلك الظروف تشتعل، الطفلة الأم بطاقة خرافية لمواجهة وقائع محاولات الإذلال الممنهجة ضد شعبها الفلسطيني، وعلى أرضه بتعزيز يقينها بأن لا هزيمة أبدا فتخرج على لسانها، في سياقات ومواقع مختلفة، مفردات التماسك وإرادة المضي لآخر مشوار الصمود. وأبرز تلك المفردات الخلاصات، أو خلاصات المفردات إن شئت، عبارة كهذه «لا شيء يجعلك حرا كالأسر»، أو سعي الكاتبة توليد معان وقيم خضراء أمام ظلم قبيح حين تورد على لسانها وهي الطفلة الأم والراوية أيضا «ما من قوة تجبرك على فرد جناحيك كالأصفاد، تماما كخيط الربابة، لابد أن يذبح بالقوس كي يشدو فالألم اليومي فدائي نحن جنوده والصبر هو زيه الرسمي»، ثم تنتقل الكاتبة إلى امتدادات سلسلة مأساة الارض المغتصبة، حيث يقتل رصاص المحتل ابن الأسيرة.. فيضاف إلى جرح الأم الأسيرة ابنها الشهيد «نشيع جثمان يوسف لكننا نترك الخيمة على حالها فلم ننته بعد، قهوتنا العربية مازالت ساخنة تستعد لاستقبال الجريح كي يأتي ليرى بعينيه ما جهزه له الميت الحي قبل رحيله».
من المهم عند قراءة هذه الرواية السردية أن نقف عند إشارات لها مغزاها، فالطفلة الأم ـ الكاتبة – ورغم كل ما جرى لأمها وأسرتها وشعبها، تؤمي عبر رسائل بعثتها بأن الخطاب الإنساني للعدو ربما يؤثرفيه، ومن بين تلك الرسائل واحدة إلى كل أم يهودية. والثانية إلى الجندي الإسرائيلي قاتل أخيها تقول فيها «رسالتي الثانية لشخص قد لا يتوقع أحد أنني سأبعثها، هي دعوة لذلك الجندي القاتل الذي ظن أن الحياة الفلسطينية رخيصة»، ومن ثم تبعث برسالة ثالثة إلى الشعب اليهودي، ربما تحاول الكاتبة عبر هذه الرسائل تلخيص الموقفين الفلسطينيين المختلفين، فيما يخص طريقة التعاطي والتعامل مع الاحتلال، حوار التفاوض أم حوار السلاح؟ ويبدو ولأن الكاتبة فلسطينية تحمل جينات الأرض والقضية، فإنها تحمل كل تلك الأسئلة لتجسد الموقفين، في رسالتها بقولها «كإنسان فلسطيني ولي حق الحياة الكريمة سلاحي اليوم هو الكلمة لكنني سأحمل غدا أي سلاح يعيد لشعبي المقهور حقه وكرامته». لتختتم سردها على وقع أبيات شعرية للشاعر محمد خضير:
يا وجه أمي
هذه القسمات منفى
يلفظني الحصى
أخلو بها
لأنام بين ظلالها
رائحة الخيام
وبعض ذكرى