«من أوراق شاب مصري» لحمزة قناوي: ورطة الواقع واغتراب الذات!

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أحمد المؤذن
يمكن وصف أدب السيرة الذاتية بأنه يشبه العوم في مياه غير آمنة، لا تدري إن كنت ستبلغ الجهة المقابلة وتفوز بالمرتجى من حلم الحياة التي تطحن عمرك فيها، أم تتلاشى رؤاك وتذوب في الهجير، حيث أمامك الكثير من العقبات والصعاب. فمفرزات المجتمعات الشرقية لايزال راسخاً في أدبياتها وخطابها الثقافي أن مجرد اعتراف المرء منقصة أو ضعف في شخصيته. نتذكر هنا ما قاله الروائي الكولومبي الشهير غارسيا ماركيز: «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره.. وكيف يتذكره ليرويه». في ساحتنا الثقافية العربية يعتبر أدب السيرة الذاتية حديثاً مقارنة مع نظيره الغربي.
رغم هذا عمد المصري حمزة قناوي إلى كتابة روايته «من أوراق شاب مصري» الصادرة عن دار «الآداب»- بيروت، في طبعتها الأولى 2012 التي تمتد إلى 414 صفحة، قام الكاتب هنا بسباحة «مُضنية» طوال الرحلة التي قطعها في العمل (السيرذاتي) المتشعِّب في اهتماماته الحياتية، حيث أعلن للقارئ من عتبة العنوان المتواضع في مضمونه والغني بتداعياته، أن الرواية مجرد أوراق محكية من حياة مواطن عربي شاب، تشبَّعَ من غربة روحه وصار جرحه مالحاً يعمُق في جنون الحياة التي تقتلع أجمل شتلات أحلامنا المؤجلة.
عندما يرفضنا الوطن
لا أجد هنا غير هذا العنوان أستهل به القراءة، حيث لا مناص (للبطل) من موقف حساس وصعب، وجوده في صالة المطار يستعد لمغادرة وطنه بحثاً عن أحلامه وذاته، هي خيبة الأمل عندما تسيطر على المرء وتنهب منه آخر ما تبقى في جيب شقائه، وأكثر من يعاني هذا المصير هو الإنسان المبدع، فذاته تكون مليئة بالتصدعات والجروح، وهناك في القلب أكثر من وجعٍ يُدمي الروح فيتضاعف عذابه مع تتالي الأيام وهو يغادر حلماً بعد آخر!
فماذا يعني أن يختارك مُجنَّد «عسكري» من وسط الزحام ويهين كرامتك الإنسانية لمجرد أن بطاقتك المدنية مهترئة أو تكون نسيتها؟ هذا لا يحدث إلا في عالمنا العربي، جلافة العسكري سلطة لا تقبل النقاش، تكون في الأغلب سلطة تابعة لأبوية ديكتاتورية أكبر في سلم الهيمنة الرسمية التي تبسط نفوذها على الوطن، الذي يعج بالمشاكل من بطالة وفقر وتدنٍّ لمستوى التنمية، وسط كل هذه الإشكالات صارت شخصية البطل السارد في الرواية تواجه المزيد من الإخفاقات ومشاعر القهر، هي موزعة بين الأرصفة واختناقات حركة البشر في لهاثهم الحياتي في عاصمة عربية ضخمة ومترهلة وكثيفة الحركة كالقاهرة، فأين يجد المرء لقمة العيش وسط غربة المدن الكبيرة وكل الأبواب أمامه مغلقة أو يسيطر عليها روتين البيروقراطية الرسمية المعيقة لتوزيع عادل للفرص وحفظ كرامة الإنسان؟ حرص الكاتب كما هو واضح على نبش واقع الحياة، وكيف تسير بعيداً عن الشعارات القومية وحقوق الإنسان والثقافة الرصينة.. إلخ، حيث تجاوز العديد من الألوان البراقة التي تجيد تجميل الواقع المصري وتُبرزه ضمن تلك البروباغندا المفضية إلى تحسين وجه السلطة في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك. يتجلَّى التعب والتجوال في شوارع الخيبة، تتراكم الإحباطات وأوجاع القهر في نفس البطل «الحكَّاء»، يُصِر على التمسك بنظافته الخلقية والمعنوية، رافِضاً تلويث سمعته بما هو سهل، للآخرين من المتهافتين على أي مُتاحٍ من المكاسب.
قيمة الإنسانية.. إشكالية المادة
أبرز السارد الكثير من الأحداث ضمن واقعه الحياتي، بحث معنى قيمة الإنسان إزاء إشكالية المادة، وكيف تُقَولِب ما حولها أو تلتف على القيم والثوابِت الأخلاقية، بحيث لا تكون هناك قيمة من احترام للفرد المثقف وسط مجتمعه، عليه أن يسلخ من لحمه كيما يعيش أو حتى يضطر إلى بيع كتبه في أصعب حالات عوزه، تماماً كما صوَّر هذا المشهد الموجِع في الرواية: «أول أمس رفض بائع الروبابيكيا أن يَشتري مني كُتب مسرح بريخت ـ الأعمال الكاملة ـ بخمسين قرشاً. قال لي: لا مؤاخذة .. الكتب دي «ما تِوزنش» قلت له محتجاً بشدة: دا بريخت يا جاهل.. بريخت ما يوزنش؟ أنت بتقول إيه؟ قال لي : «بخيت» دا مش عامل كيلو إلا ربع يا أستاذ.. وأنا عاوز حاجة تقيلة! ظللت أنظر حولي في حيرة ولا أعرف ماذا أبيعه!» ص 61.
من هذا المقطع، كان واضحاً مدى المأزق الحياتي الصعب الذي يُكابِده المثقف العربي، تفاصيل الصورة غارقة في مفارقتها السوداء الساخرة، في اعتقادي أنها تتكرر في أكثر من عاصمة عربية، وتستنسِخ نفسها في مواقف تحمل المضمون ذاته الذي أراده حمزة قناوي، وهو يُعرِّي داخل المجتمع العربي وكيف تم تحطيم بنيته الإجتماعية والتنموية والثقافية والمعيشية، حتى بَلَغَ هذه الحالة الرثَّة، وقد أوغلت أنظمته الحاكمة في استنزافِه على كل الصعد، حتى صار خارج رحلة قطار هذا العصر، لهذا يرانا (الآخر) كأننا منتمون إلى كوكبٍ مختلف!
إن تكاثر الهزائم وتكسُّر النِّصال على النصال، جعلت روح المثقف العربي مصابة بالإحباط والعزلة الذاتية في عالم آخر، تزدهر فيه حقول الموت (المعنوي).
تدفع بالكاتب مراوغة واقعه فيتخندق خلف شخصياته التي يرسم ملامحها سردياً، فيحمِّلها غضبه المكبوت وهزائمه ونزواته، وصولاً إلى تخوم أحلامه المنتكسة في حفر الفشل، جرّاء ما أصاب المواطن العربي. يبدو الكاتب هنا على دِراية تامة بالمياه التي يسبح فيها، عارفاً بالوجهة التالية التي يتحرك في مسارها التيار المعاكس وهو في مواجهته حينما قرر كتابة «من أوراق شاب مصري»، حفر عميقاً بغية معرفة قيمة الإنسان (المصري / العربي) وموقفه من ذاته وسط المتغيرات الداخلية والإقليمية، حيث أثار العديد من التساؤلات الملحَّة في واقعنا العربي الراهن.. من جملتها: أيهما أولاً القيم المثالية أم التحقق المادي؟ أيهما يحفظ كينونة (الأنا) في هذا العالم؟ أيهما يحتل أولوية حضارية؟ وما فائدة البناء التراكمي للذات وسط محيط بشري يزهد في تقدير واحترام مثقفيه ليمارس بعدها التهميش والإقصاء في حقهم؟!
مصر من الداخل
ركزت الرواية (المؤرَّخ انتهاؤها بعد كلمة الختام في ديسمبر/كانون الأول 2010، أي قبل اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني بشهر واحد) على الشأن الداخلي لمصر في عهد مبارك، بل ذهبت لأبعد من ذلك، حينما أعطت مؤشرات خطيرة للغاية عن الحياة المعيشية للشعب العربي المصري في عهده. فيمكن اعتبار الرواية جاءَت في فترة حرجة وعصيبة من تاريخ مصر، فترة سبقتها تحوُّلات من تحت القاع كانت تحتدم فيها قوى التغيير الذي لا بد من وقوعه لا محالة، تظاهرات شبه يومية في شوارع المدن المصرية الكبرى، احتجاجات عمالية، مظاهرات فئوية، عنف في الشارع، وتغوُّل القبضة الأمنية للسلطة وفساد الشرطة المصرية (أحد أسباب اندلاع ثورة 25 يناير لاحقاً)، وجمود التيارات السياسية المصرية التقليدية العاجزة عن التغيير السياسي وفق آليات التغيير المعطلة أو الفاسدة سلفاً. علاقات الدولة المصرية وتحالفها مع الولايات المتحدة وتكبيلها باتفاقية كامب ديفيد غير الشعبية، التي يكرهها الإنسان المصري لأبعد الحدود ولا يعترف بها، الانفجار السكاني وشحّ المشاريع السكنية وتهالك البنية التحتية.. إلخ.
مجموعة ملفات شديدة التعقيد توقف عندها الكاتب، واستَعرَضَها ضمن سياقات روايته وكأنه كان يتنبأ بلحظة الانفجار التي تأخر توقيتها، حيث دلَّت جل هذه المؤشرات إلى ميل طبيعي للناس باتجاه الثورة على الظلم والفساد، والوضع المعيشي وكذا السياسي الذي تعيشه أغلبية شرائح الشعب المسحوق؛ لا فرق هنا إلا مع من يبيع خدماته وإنسانيته وقيمه إلى السلطة الحاكمة، هي وحدها من يشتري ولاء الفاسدين والمتاجرين واللصوص ومروجي العهر السياسي المتاجر بخبز الفقراء ومستقبلهم.
في سياق الرواية يُمكِن تلمُّس صدق الموقف والرؤية التي جسَّدها الكاتب، ونستطيع القول إن إحدى السمات الفنية المُميِّزة لهذا العمل هو سيل التدفُّق المعلوماتي الموظَّف في السياق الحكائي عن مصر، حيث لجأ الكاتب إلى سلك تقنيات دمج وتنظيم هذا التدفق المعلوماتي ليكون بمثابة دراسة ميدانية تنبش واقع مصر الحقيقي ما قبل الثورة، وهنا تكمن أهمية الرواية، هي شهادة للتاريخ، تعري الوجوه التي باعت ثوابت الأمة العربية وتنصف الأخرى التي بقيت على العهد تدافع عن كل ما هو جميل وناصع وسامٍ، لم تلوثه شهوة الدولار وعولمة العالم المتحضِّر، حيث يزداد الأغنياء غنى وينتكس الفقراء أكثر في فقرهم.
إن الكاتب جعلنا نتقاسم وجع رجل الشارع العادي في مختلف حالاته اليومية، بدايةً من الشباب الذين أكلتهم البطالة والفراغ الروحي، وقد تخشبت نفوسهم في روتينية القبح والتكرار والتنميط، وصولاً إلى بائع الصحف على الرصيف، والموظفين، والطلاب، والعُمَّال، في صورةٍ حية لكافة شرائح المجتمع المصري المسحوق تحت وطأة الفساد السياسي والتأزُّم الاقتصادي.
وقد لعب التوقف عند التفاصيل الصغيرة، دوراً عميقاً في إغناء الحالة السردية التي تمتع بها قلم الكاتب وهو يتجول في عمق مجتمعه، راصداً مختلف أوضاعه، لم يستثنِ شيئاً ولا أحداً من المشهد المحيط به، في الرحلة التي أنجزها في عمق المجتمع المصري، التي وضعت المتلقي في قلب الصراع ومعايشته، كما أشركته في دوامة الأحداث بكل تناقضاتها وتحولاتها المصيرية، إن بالسلب أو الإيجاب، ولعلّ هذا التحم بشكل سوداوي مغرق في سخرية الواقع المعيش، حيث تجد الأطفال مصابين بفقر التغذية، بينما الأغنياء في مصر يبتدعون ضروباً من الترف لا ينافسهم فيها أغنياء الدول الصناعية الكبرى، فيها من الرفاهية والوفرة ما يناقض الوجه الآخر من المشهد البائس.
«من أوراق شاب مصري» رواية جديرة بالقراءة رغم مسحتها الغارقة في السوداوية، ولكن كاتبها- وبطلها في الوقت ذاته كما يتضح لنا من سياق الأحداث- وضع النِقاط على الحروف حين شَخَّصَ العِلَّة وانتظر الطبيب المعالج أو بالأحرى «المُخلِّص» القادر على حل مشاكل وتحديات وطنٍ يُجرَّف منذ ثلاثة عقود، حتى صار الخلاص أشبه بالمعجزة، وهو ما اختصرته الثورة التي انفجرت في الشهر التالي على صدور هذه الرواية في الأسواق.
المصدر: القدس العربي