«موفيولا» للفلسطيني تيسير خلف: السينما وسياقات سردية !

الجسرة الثقافية الالكترونية

*رامي أبو شهاب

 

تنهض رواية «موفيولا» للكاتب الفلسطيني تيسير خلف على كل من المُتخيل والواقع، والحقيقة والوهم، ولكن عبر ثيمة الانزياح المتكرر للإنسان عن مركز الأشياء، ولاسيما عن الوطن والحلم والمكان وحتى الزمن. 

الرواية مَعنيٌة بفلسطين، لا بمرحلة من تاريخ فلسطين التي توجد في سياق تخيلي، ما يُضفي على التّاريخ صبغة من الحياة والحيوية، فالرواية تسعى لاستعادة التاريخ، وشخوصه، ولكنها تبقى مع ذلك نزعة لاسترجاع ما قد مضى لكونه حالة، أو هاجساً عاطفياً، ولهذا لجأ تيسير خلف إلى المزج بين الرّواية وتقنيات السينما، حيث تتقاطع مستويات التخيل في متن رواية تبحث في آلة الموفيولا، بوصفها انعكاساً لواقع شخصيات فلسطينية تتحول إلى صيغ هامشية، غير أنها مؤطرة في سياق حقبة من التاريخ الفلسطيني غير المُعاين، أو الرسمي.

تدين معظم شخصيات تيسير خلف إلى مرجعية التاريخ الهامشي، أو التي همّشها التاريخ، غير أنها تعود مرة أخرى في مُتخيل روائي؛ لتقدم وجهة نظرها، وموقفا معلناً لانكسارها، فثمة الكثير من الأحلام التي تبددت مع مجرى الأشياء، أو ربما في سياق التاريخ بطابعه السّوداوي. ولعل تيسير خلف سعى إلى تفعيل التقنية السّينمائية التي تنهض على المشاهد، أو المقاطع التي يُعاد تركيبها، عبر جاهز الموفيولا، فهذا ما نراه عبر مستوى شعوري لامس القارئ، إذ أن العمل يترك شخصياته في شتاتها وترحالها عبر مشاهد تحفل بعنصري الزمان والمكان، ولكن بدون ترابط كرونولوجي معين، فالشّخصيات تحضر في مشاهد منفصلة، أو غير متسلسلة، ومع كل ذلك، فهي تمضي إلى مسارها المحتوم، أو إلى ذلك المستوى من الإضاءة للمعنى الميتافيزيقي لفقدان الأرض على شكل صدمة. 

يهدف خلف من روايته إلى استعادة جزء من التاريخ الذي كان قائماً قبل سقوط فلسطين، أو قبيل ذلك، وهذا يعني التّمسك، والتّشبث بالمكان، كما بتلك الأزمنة وشخصياتها، لا سيما وهي تعبر شوارع يافا بأسمائها، ودور العرض السينمائي. ذلك الولع بتصوير المكان عبر تقنية بث الحياة يبدو موفقاً، إذ تجسد عبر مشاهد تحتفي بالمدينة الفلسطينية، ولا سيما حيويتها. هذا الواقع المتخيل أضحى مثالاً، أو كناية عن وجود الإنسان الفلسطيني بوصفه شعباً، يمتك قدراً كبيراً من الحياة والجمال، ومع ذلك يبقى هذا البعد الدلالي غير ذي وجاهة، ولكنه مع ذلك يشكل مستوى دلالياً قائماً على مستوى التحليل.

تُبنى الرّواية على توليفة من الشّخصيات الفلسطينية التي خبرت ذلك الزمن، في حين أن المكان يتراجع في وعي الشخصيات التي تنهض بدور مركزي على مستوى الخطاب الحكائي، ولكنها تبقى متراجعة، مقهورة على المستوى الدلالي، فهي تتآكل في النفي والاغتراب، اللذين يقضمان الحلم شيئاً فشيئاً. في مُفتتح الرواية نواجه شخصية إبراهيم سرحان، وهو سينمائي فلسطيني، قام بصنع آلة الموفيولا بطريقة مبتكرة، حتى يتمكن من إنتاج أفلامه السّينمائية، وهنالك شخصية محمد الكيالي الذي درس الفن السينمائي في إيطاليا، الذي يؤمن بأهميته، ودوره المُقاوم من منطلق الالتزام، فهو أكثر قُرباً من التّيارات الواقعية، مع نبذٍ واضح للاتجاه السريالي ببعده المنفصل عن الحقيقة، كما عاينه في فرنسا التي زارها. وهنالك شخصية ذو الكفل، رجل من رجال المفتي أمين الحسيني الذي يكلفه بمهمة في فلسطين، وذلك بالتعاون مع الألمان، ولكن المهمة تفشل. وهنالك شخصية إبراهيم لاما ذات الحضور الضئيل في الرواية، غير أنه تبدو متقدمة على المستوى الدلالي فيما يتعلق بدوره الريادي في تأسيس السينما العربية، ونهايته المأساوية منتحراً، وأخيراً شخصية المفتي بوصفه زعيماً فلسطينياً عربياً من ذلك الزمن. 

لا مجال للشّك بأن تيسير خلف لم يكن مَعنيّاً بتتبع مصائر الشخصيات، وإقامة شبكة من العلاقات والصراع، إنما جاءت الشخصيات بوصفها جزءاً من التاريخ، الذي يترك آثاره على كل شخصية من تلك الشّخصيات، إنها علاقة تبادلية؛ ولهذا جاءت معظم الشّخصيات مفتقدة للعمق في البناء، غير أنها لم تفتقر إلى القدرة الدّلالية، وشيئاً من الحساسية في تكوين رسالة، ومقصدية الرواية عبر خلق فضاء، ونسيج واحد من العلامات لمعنى تسرب، وانحلال الوطن، فالمتأمل في حضور هذه الشّخصيات مجتمعة، يلاحظ أنها لم تكن على سوية واحدة، من حيث قيمة الحضور على المستوى السردي، أي في ميزان المتن النصي، وهنا، لابد من الإشارة إلى شخصية إبراهيم سرحان الذي يمثل تمهيداً موفقّا، حيث نراه في مخيم شاتيلا، يستمع لأغنية للمطرب محمد عبد الوهاب، ونمضي مع إبراهيم سرحان في سياق لقطات، ومشاهد تظهر بين ثنايا العمل، غير أنها ترسم مسارد ذات مسارات دلالية باهتة في بعض الأحيان، حيث كان ينبغي التّمهل لسبك هذه الشخصية، واستثمارها روائياً، فهذه الشخصية تحب السينما وتعشقها، كما أنها تبتكر آلة الموفيولا التي تستعمل لإنجاز بعض الأفلام، التي لا تصنع إلا في إيطاليا أو أمريكا فقط، وهذا يأتي على هامش عمله كمصور في استديو فوتوغرافي. إبراهيم سرحان المُحتفي بالحياة، وحب السينما، ينتهي به المطاف لاجئاً في لبنان، وتحديداً في مخيم شاتيلا، حيث يمارس «السّمكرة»، وهنالك يختبر الحرب الأهلية اللبنانية، ليموت سنة 1987 في مخيم شاتيلا، لا يسير في جنازته سوى عدد ضئيل من الناس، منهم زوجته، وبعض أولاده، وهكذا يغيب الرجل، ولكن يغيب معه الحلم، وتلك الروح التّواقة للفن والجمال. 

وفي تتبعنا لمسارات الشّخصيات الرّوائية، نواجه شخصية الكيالي الذي يذهب لدراسة السينما في فرنسا، غير أنه يغادرها لعدم قناعاته بتلك الرّؤية التي تنزع نحو نفض الواقع، والتحلل منه، كما كان شائعاً آنذاك في فرنسا، حيث هيمن المذهب السريالي.

يعود الكيالي إلى فلسطين، وهنالك يتعرف بإبراهيم سرحان الذي يصور فيلماً مهماً حول زيارة الأمير سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين، يقترب الكيالي من المفتي الذي يشاركه الإيمان بأهمية إيصال الصوت الفلسطيني للعالم عبر السينما، وفي ما بعد يذهب الكيالي إلى إيطاليا كي يتعلم التصوير والإخراج، وهناك يقترب من موسوليني، حيث يقوم الكيالي بتصوير أو توثيق وقائع زيارة أمين الحسيني للزعيم الإيطالي. تبدو مشاعر الكيالي مشوشة إزاء القائد الفاشي، غير أنها تحسم بخسارة دول المحور للحرب، وهكذا يصبح الرجل مطارداً من الإنكليز والفرنسيين، ليهرب إلى ليبيا، وهناك يقابل معمر القذافي آملاً بتحقيق حلمه في ما يتعلق بإنتاج بعض الأفلام السينمائية، غير أنه لا يوفق، ليتحول في ما بعد بحلمه إلى جمال عبد الناصر، ولكن الأخير يموت، ليأتي في ما السّادات، وهنا تبدو الشّخصية، وقد فقدت أحلامها، ولاسيما إيمانها بتلك المُثل التي أطبق عليها الواقع، ويبقى الكيالي بوصفه ذاتاً مهزومة، منخورة، يموت وحيداً خارج وطنه… من دون أن يكتمل دوره.. سينمائياً.

وبينما شخصية المفتي تنتشر في المتن النصي، إذ نواجهها، وهي تستقطب الكثير من الأحداث حيث تستأثر سردياً بالنسيج الخطابي، خاصة من حيث مساعي المفتي للمحافظة على فلسطين عبر القيام بتحالفات مع المحور عبر لقاءات مع موسوليني وهتلر، غير أن الحرب تُفشل هذه المخططات، فضلاً عن شكوك الحسيني تجاه نوايا ووعود الألمان والإيطاليين. تنتهي مجريات الأحداث بالمفتي إلى أن يكون خارج أرض فلسطين، حيث يموت في بيروت سنة 1974 وهو بعيد عن وطنه، وهنا يتعإلى النسق التاريخي ذي الصّبغة الارشيفية، كما تبين لنا من تسليط الضوء على الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية، وتحديداً من حيث موقع المفتي بوصفه نموذجاً للإعجاب من قبل صالح الكيالي، الذي لا يجد بديلاً عن الرجل يمكن له أن يشكل نموذجاً ثورياً، أو بطولياً، كما كان المفتي، أو جمال عبد الناصر. 

في «موفيولا» نقرأ حضوراً ثانوياً وهامشياً، ولكنه محوري من حيث تشكيل أبعاد الصورة المكتملة التي تنهض عليها الرواية عبر شخصية «ذو الكفل» الذي يقوم بإدارة إذاعة للوطنيين في ليبيا، ومن ثم يكلف بمهمة في فلسطين مع مجموعة من الفلسطينيين، والجنود الألمان، غير أن المهمة تفشل، ويلقى القبض على المجموعة التي تتعرض للتحقيق، يخرج ذو الكفل بعد أن تكون فلسطين قد سقطت بيد اليهود، ويموت ذو الكفل بعيداً عن وطنه في ليبيا. 

ومما يلاحظ من تتبع مصائر تلك الشخصيات تموضعها في سياق من التاريخ الفلسطيني، مع محاولة رصد ما عنى به هؤلاء الرجال، كل وفق منظوره الخاص، ولكن «السينما» بدت مركزاً استعارياً، بالتجاور مع ذلك المصير المشترك الذي يحاصر الشخصيات مجتمعة، فهذه الشخصيات كانت تنطلق من فلسطين، ومن أجل فلسطين، التي يعني الابتعاد عنها نمطاً من الألم والشعور بالخسران، حيث تنتهي كل شخصية من الشخصيات بالموت في المنفى، أو خارج حدود فلسطين. وهنا نقرأ تشظي الإنسان الفلسطيني الذي تتنازعه الأمكنة التي تسرق الفرح والحلم والرغبة في الحياة، ولعل مصير إبراهيم سرحان يبدو محورياً من حيث البناء الهيكلي للعمل، وهنا لابد من الإشارة إلى الاختلال السردي، حيث كان يفضل أن تتمهل الرواية لتتأمل حيثيات وتداعيات وجود بعض الشخصيات، ولا سيما إبراهيم سرحان في مخيم شاتيلا، التي كان يمكن لها أن تنهض بمستويات دلالية عميقة، عبر استثمار ثيمة الحلم والولع بالسينما، الذي تسرب نتيجة الأحداث السياسية، وهذا الموقف يمكن أن ينسحب أيضا على شخصيتي الكيالي، ولاما اللذين خبرا العديد من الخيبات.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى