نقاد لا يعرفون بناء جملة صحيحة… كتاب عراقيون: تحول نقدنا إلى جسد مريض بسبب الأوبئة الطارئة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*صفاء ذياب

المصدر / القدس العربي

مهما قدَّم الانفتاح والحرية في النشر من حياة جديدة لها إيجابياتها الكثيرة، غير أن هناك سلبيات من الصعب السيطرة عليها. ففي خضم انتشار الصحف العراقية، التي تجاوز الـ300 صحيفة خلال سنوات قليلة، والمواقع الإلكترونية التي لا يوجد محرر حقيقي فيها، تبرز ظاهرة جديدة، وهي النقد الصادر من كتاب لا معرفة سابقة لهم بآليات النقد ولا لغته ولا مناهجه ونظرياته، ففي كل يوم يظهر ناقد جديد، ويصعد على منصة اتحادات الأدباء في بغداد والمدن العراقية، إضافة إلى مشاركاته الكثيرة في المهرجانات التي لا تؤسس على احترام الآخر ولا تسعى للحفاظ على الثقافة العراقية.
ولكي لا نجني على هؤلاء الذين يسميهم البعض (نقاداً كباراً) نقدم مقاطع من كتاباتهم النقدية:
«هناك منطق شعري قوي يؤطر المحكي النثري من دون تحقيق صفة حكائية، والشاعرة …… من خلال ذلك المنطق، إن قصيدتها أتاحت للصورة الشعرية ملامسة إحساسها الشعري/ الذاتي، فكان النص الشعري من جهة ذات شعرية يمثل الوجود الحي رمزياً، ومن جهة أخرى مثل إحساس شعري، وحسياً النص كان يحاور ذلك المستوى الرمزي».. هذا الناقد أصدر حتى الآن أكثر من أربعة كتب نقدية ويسميه بعض الأدباء بالناقد الكبير؟
وهناك نموذج ثانٍ لمثل هذا النقد من قاص لم يفهم حتى الآن كيف تكتب القصة القصيرة، لكنه مع هذا بدأ يكتب عن الرواية والشعر مقالات نقدية تنشر في بعض المواقع والصحف:
«كتابات ما بعد الحداثة كثيرة ومتنوعة، وتنطلق من خطة فكرية عميقة لكل روائي من صناع الرواية الجديدة، التي خرجت من أتون التقليد والأساليب الكلاسيكية المقيتة إلى نور الحداثة، ففي رواية……….، يخالني أن هذا الروائي يمتطي جواداً أصيلاً، والمقصود جواد السرد، ويعتلي صهوته بكل تمكن لينطلق فيه في فضاء عالم آخر وهو يحمل هدفاً سامياً وكبيراً».
فهل يمكن أن نعد هذين النموذجين نقداً؟ وهل خرجا من منهج نقدي أو شرعا لهما مفاهيم جديدة؟
في محاولة منا للوقوف على الأسباب التي أدت إلى ظهور نقاد يتزايدون كل يوم، والأسباب التي تجعل من صحف ومواقع إلكترونية تنشر ما لا يمكن تسميته نقداً، حاولنا أخذ آراء كتاب عراقيين للوقوف على أهم هذه الأسباب:

المتوهمون

ينظر الناقد حسن الكعبي إلى هذه الحالة، من خلال الأوهام النقدية التي لا يمكن تشكلها من دون وجود فواعل إنتاج مؤسساتي تشكل الإطار الحاضن لها، والذي يسهم في إنتاجها وتكريسها ثقافياً، والمقصود بهذه الفواعل، الدوائر الثقافية ودوائر تلقي وتسويق المنتوج الثقافي، التي تمثلها الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، مضافاً إليها دائرة التسويق الإعلامي للمنتوج الثقافي من خلال القدرة الفائقة للإعلام على تسليط الضوء على المنتوج المحتفى بأوهامه أو على شخص المنتج لهذه الأوهام، وبالتالي صناعة الوهم على مستوى الموضوع الثقافي والذات المنتجة له، وعملية الإنتاج هذه هي ما اصطلح عليه محمد أركون «الأطر المؤسسة للجهل» في سياق مراجعته للواقع الثقافي العربي، التي يصعب إزاحتها نتاج نسقيتها القارة واستمرارية توالدها، خصوصاً في واقعنا العربي والعراقي.
ويضيف الكعبي، أن الأوهام الثقافية لا تقتصر على نوع أو جنس أدبي معين، بل أن لها تجسدات كثيرة في الشعر والسرد وغيرها من الفنون القولية والفعلية، لكن تبقى أخطر هذه الأوهام، هي الأوهام النقدية نتيجة احتكام النقد إلى خاصية تقويمية وتقييمية تتيح له الحكم على النصوص وإبراز خواصها الجمالية، واشتمالاتها المعرفية والثقافية، وبالتالي الحكم على النصوص بجودتها أو رداءتها، ووجود أوهام نقدية سينتج فوضى في الأحكام التقييمية، كنتيجة حتمية لقصورها المعرفي والمفاهيمي وغياب المعايير النقدية المنتجة لأحكام القيمة، التي تعد الفيصل في جودة النص أو رداءته، وهذه الأمور مجتمعة تسهم في إنتاج أزمة ثقافية كبيرة وفوضى أكبر في إنتاج الاضطراب الثقافي.
ويبين الكعبي أن واقعنا الثقافي يعاني من هذه الأزمات لتسيد أوهام كثيرة في مشهديته، التي يجد أن ثمة ضرورة ملحة لتعريتها وملاحقة إنتاجيتها بالنقد من قبل نقاد حقيقيين ملتزمين بضرورة الدفاع عن الثقافة والنقد وتعرية الأوهام العالقة بهما، مع ما تقتضيه هذه المحاولة من جهد استثنائي في مواجهة مؤسسات صناعة الأوهام الثقافية ومع صعوبة إزاحة هذه الأوهام التي تتوالد بشكل كبير وسريع نتيجة نسقيتها.

أزمة أمة

لا يستثني الناقد صادق الطريحي النقد العراقي من العربي، فحسب وجهة نظره ليس النقد العراقي وحده يمر بأزمة كبيرة، بل يشترك النقد العربي كله في هذه الأزمة، وليس استسهال النشر في عدد من الصحف والمجلات ومواقع النشر الرقمية وحده هو السبب في شيوع كتابات تتسم بالتهويمات في جمل غير مترابطة، بل أن الكثير من (الكتب) والرسائل والأطروحات الجامعية تأخذ من بعضها بعضا، وتجتر بعضها بعضا، وتسرق منهجاً ما بتنظيراته، وحدوده من دراسة سابقة؛ فتلبسه أديباً آخر بعد أن تغير في المقتبسات النصية فقط.
ويرى الطريحي أن أزمات سابقة مهدت لهذه الأزمة، فمن نسخة عربية غير ناضجة للحداثة عن أصلها الغربي، لأنهم فهموا الحداثة أنها تجاوز على اللغة لا غير، إلى أزمة في المصطلح، والمصطلح الذي لا يشير إلى دلالات معرفية محددة سيحدث إرباكاً وفوضى، كما يرى عبد العزيز حمودة، وقد فهم البعض أن النقد هو كثرة المصطلح في (مقالاتهم) من دون أن يدركوا أن المصطلح علامة تستدعي التنقيب والبناء للمشاركة في جو ثقافي يصنعه الناقد. وقد فهم البعض أن النقد هو أن تكتب رأيك في ما تقرأ، وعلى الآخرين أن يأخذوا به، من دون أن يعلموا أن النقد هو علم شأنه شأن أي علم آخر، وأن ما يظنونه آراء هي نتائج قائمة على الفحص والموازنة والبحث في النصوص السابقة وفق منهج، هو منهج البحث الأدبي أولاً، فضلاً عن الموهبة… ومما لا شك فيه أننا بحاجة إلى فضح هؤلاء المدعين وتقديمهم إلى العدالة، ففرنسا مثلاً تغرم من يخطئ في لغتها، إذا كان الخطأ في محل عام، لكننا في الحقيقة لا نستطيع إبعاد هذه الأسماء التي لا علاقة لها بالكتابة ولا بالمفاهيم النقدية؛ ليس لضعف فينا، ولكن لضعف في المؤسسة الثقافية العربية ككل، وهي مؤسسة ريعية مرتبطة بسلطة الدولة أو الأحزاب. وهذه الأسماء تستمد وجودها من ورقة الهوية التي تحملها وليس من هوية ما تكتب. وفي الواقع الملموس لا يجد أحدنا ما يمكن فعله تجاه الاستسهال الذي سببه انفتاح النشر في مواقع لا يمكن متابعتها، «لكنني أثق بقدرة القارئ على التمييز، وقد لمست ذلك من خلال حديث ليس بالقليل مع القراء، فلسنا وحدنا من يعرف هؤلاء، وأثق أيضاً بأننا نستطيع أن نبعد هذه الأسماء من خلال جودة ما ننتج وتفرده، فلا أحد يستطيع طرد بضاعة فاسدة إلا ببضاعة أفضل منها».

ملء البياضات

في حين يوضح الشاعر والكاتب عباس الحسيني أن النقد الإبداعي يحفز، بهيكله المبني على ركائز أكاديمية، والمنبثق عن رؤيــة إبداعية مميزة، ذهنية المتلقي للعمل الفني والمتتبع للأثــر الأدبي، على حد سواء. النقد قراءة ثانية، وببصيرة تختلف جذرياً عن فحوى وإنتاج النص الإبداعي، وهو خلاف النقد الصحافي اليومي، الذي أصبح يهدد العملية الإبداعية، ويدمـّـر ذائقة القراء، وسيأتي حتماً على مجمل العملية الإبداعية التي قوامها المبدع وموشورها الناقد، ومتلقيها القارئ. ففي الكتابة الموسيقية نجد أسماء لامعة تميز بين المقامات والأصوات، ولا تجيد العزف على أي آلة موسيقية، سوى الترتيب الإنشائي للجمل، وفي مضمار النقد السينمائي أصبحت الكتابات السينمائية موضة لاستعراض آراء غير حقيقية، ولا تستند إلى واقع فني رصين. أمــا الطامة الكبرى، فهي المتمثلة بالنـقـد الأدبي، إذ تحول النص النقدي إلى نص مجامل، مزيف وإنشائي، لا يبرز عواهن النص المكتوب، ولا يكشف عن أسارير ومغاليق النصوص، ومعادلاتها الأدبية، ولا يقدم للقارئ منطلقاً حقيقياً لفهم النص وطريقة قراءته، لتتحول العملية النقدية برمتها إلى مجرد نشاط صحافي يومي، لملء بياضات الصحف، وهو الأمر الذي سيقضي على مستقبل الذهنية القرائية الثاقبة، وسيوسع الهوة بين المنتج والمتلقي، ويشل الترقب والهوس بعالم أدبي أرفع وأكثر رصانة وأجلّ إبداعاً.

جسد مريض

الشاعر رعد زامل يوضح أنه مما لا شك فيه أن الممارسة النقدية، التي لا تواكب المسيرة الإبداعية أساساً، أصبحت عملاً مستسهلاً، بل إننا نجد بعض الأكاديميين ممن يزاولون هذه الفعالية لا يجيدون قراءة النصوص أصلاً. وبالنتيجة فهم يغلقون أبواب القصيدة؛ مثلاً، بدلاً من البحث عن أبوابها السرية. مضيفاً أن المشهد النقدي هنا ما هو إلا جسد مريض، إنه في الواقع بحاجة إلى من يشخص علته. كما أن الأسماء التي كان يعول عليها ظلت هي الأخرى حبيسة ممارسات لا تمت بصلة إلى الإبداع وأخلاقياته المعروفة، فهناك من يكتب نقداً بنوايا مسبقة، وهناك من يكتب لأغراض تقع خارج ساحة الإبداع أصلاً… وبالنتيجة ظلت النصوص الأصيلة رهينة الغبار وتراكم طبقات النسيان. المسألة هنا في غاية الخطورة والصعوبة، فنحن نحتاج إلى جيش من المخلصين الذين يأخذون على عاتقهم مسؤولية تشذيب حدائق الإبداع وتخليصنا من كل الأعشاب الضارة التي تعتاش على أجساد غيرها… نحتاج إلى صحف متخصصة تراهن على بريق النص لا على الوهم، كما أن الكثير من نقادنا لم يعد بوسعهم التخلص من آفة (المجاملة النقدية)، إنهم من يتحملون هذه المسؤولية بالدرجة الأساس، فضلاً عن القائمين على المواقع الإلكترونية والصحف اليومية والدوريات الأدبية، الذين عليهم قبل كل شيء أن يعوا دورهم في رسم المشهد الحقيقي لا المشهد الزائف.. «لا أبالغ إن قلت إنني اطلعت على مقالات نقدية وجدت الناقد فيها لا يميز بين اللغة الفصحى واللغة الدارجة، فأرى من الشجاعة أن تفتحوا هذه القضية وتنقبوا عن أسبابها وأول الغيث القطر».

حالة عامة

يؤكد الشاعر سلام صادق أنه لا بد من أن يتأثر النقد سلباً بالحالة الثقافية العامة المتدهورة، ولذا أصبح (النقد الأدبي) الذي يتسيد الساحة الثقافية الآن لا يعدو عن كونه خليطاً هشاً من التهويمات والأحكام المجانية المستعجلة والانطباعات الشخصية، لا بل حتى اتسعت رقعته لتشمل ما يشبه الإخوانيات، وهذا بمجمله لا يصمد أمام أحكام وشروط النقد المنهجي والتحليل النقدي والمفاهيم الخاصة به. ويضيف صادق أننا لو ذهبنا بعيداً إلى الوراء، ففي الأزمنة التي سبقت هذا الخواء الفكري والترهل الثقافي الذي نعيشه الآن، فإن النقد العراقي كان معزولاً عن المناخ الثقافي العام، لأنه لم يستطع امتلاك أدواته النقدية الفنية التي تتماهى ومعالم لغته وتجربته الخاصة، وتؤثث لعوالمه، وفي ما عدا بعض المحاولات النقدية الجديدة التي ما زالت تجد نفسها في مأزق أيضاً، لأنها ما زالت في بداياتها الأولى. بينما على الناقد أن يتسلح بالمنهجية الراسخة في ذاتها ولذاتها في كيفية التعريف أو التقييم، أي أن تكون لديه القدرة الواضحة على تحديد الأطر النقدية للنماذج التي يتناولها بالنقد ومستوياتها وتأثيراتها، كما أن حركة التحليل والتفسير التي يتبعها تنبع ضرورتها من منهجيتها واحتكامها لخط نقدي واضح المعالم. ويشير صادق إلى أن عجز الحركة النقدية العراقية عن القيام بواجبها في المتابعة والكشف والتنوير في هذا الظرف الحساس يساهم بشكل فعال في ترسيخ ومأسسة التردي الحاصل الذي جعل من الخرافة لب الثقافة، وهنا يصبح التأثير متبادلاً، فالنقد باهت وسطحي نظراً لسوء المناخ الثقافي العام، والمناخ الثقافي العام زائف ومبتذل لافتقادنا إلى النقد التقييمي الصحيح، إضافة إلى ذلك، فإن شيوع ظاهرة الانطباعات الشخصية المتهافتة التي يتناول فيها الكتاب نتاجات بعضهم بعضا بشكل مبتسر وسريع على صفحات الإنترنت عموماً وعلى جدران الفيسبوك خصوصاً هي أبعد ما تكون عن شروط النقد بمعناه المعروف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى