هذا ليس تمرينا: إحذروا شرور الثقافة ودفاتر التعدد

جمال ناجي
■ في غمرة التحليلات الذكية والساذجة والرغائبية التي نقرؤها ونسمعها حول ما يحدث في منطقتنا، وهي تحليلات ذات طابع سياسي صرف، يجدر بنا أن لا ننسى الآثار الماحقة للثقافة التي باتت تهدد مستقبل منطقتنا والعالم أيضا.
إن لفظ التهديد هنا مقصود في حد ذاته، مع سبق الإصرار على مناكفة الأحاديث المسترخية في المقاهي والقاعات المكيفة عن محاسن الثقافة وجمالياتها وعلاقتها بالتطور ودورها الإيجابي البناء وسائر التوصيفات والهندسات التي أحالتها إلى ملاك منزه عن ارتكاب الأخطاء والخطايا.
هذا ليس بيان تبرئة للسياسة والسياسيين الذين لم أثق بهم يوما، وبقيت أتعامل معهم ومع قراءاتهم وقراراتهم ولقاءاتهم التلفزيونية بحذر يبلغ حدود وضع الإصبع على الزناد، لكنني هذه المرة سأتخلى عن حذري بسبب تأكدي من أنهم يعيشون حالة إرباك غير مسبوقة تدعو إلى الإشفاق، حتى أن بعضهم صار يتنقل في مواقفه ويتقافز من النقيض إلى النقيض، ثم يجد نفسه فجأة ـ وربما من دون أن يقصد – في سلة واحدة مع الإسرائيليين، من دون الانتباه إلى أن السياسة وممارساتها، في منطقتنا على الأقل، لم تعد مثلما كانت في ما مضى، فقد تحولت إلى قناع ثقيل تختبئ وراءه الثقافة التي تحتل الآن، الساحات الخلفية والشوارع الجانبية لمناطق الصراع، وتواصل زحفها غير المقدس لتدمير ما تبقى من البنى الوطنية/ القومية والدولية أيضا.. كيف حدث هذا؟ ولماذا لا يريد أحد التوقف عند مسؤولية التعددية الثقافية عن غالبية الحروب الطاحنة والدويلات الوليدة، والإقطاعيات الدينية والعرقية، والانفصالات ومشاريع الفدرلة والكونفدرلة ؟
الحديث هنا ليس عن التنوع الثقافي داخل الثقافة الواحدة، الذي يعد تعبيرا عن ثراء الثقافة وقدرتها على التجدد والابتكار، نحن نتحدث عما يطلق عليه Multiculturalism التي تعني في ما تعني، تعدد المرجعيات الثقافية، وهي تشمل الثقافات العرقية والطائفية والمناطقية والمذهبية والدينية والعقائدية عامة، كذلك الثقافات الأخرى المكونة للعناصر المتباينة داخل المجتمعات، بما في ذلك المرجعيات الثقافية للملونين والسود والبيض والصفر، تلك التي تستعصي على الذوبان وأحيانا التعايش. المفارقة، أن التعددية الثقافية لا تفرض شروطا للاعتراف بوجود هذه الثقافة أو تلك، كما لا تتضمن سجلاتها مواصفات تحول دون انتساب ثقافة التكفير مثلا، إلى ناديها، لذا فإن هذه الثقافة – شئنا أم أبينا – تأتي في سياق التعدد الثقافي، وحين تُستنفر، فإن كل حامليها ومعتنقيها في مختلف بقاع العالم يتنادون حول مضمونها العابر للمجتمعات والقارات والثقافات، من دون أن يلتقوا بالضرورة، ويأتمر الكثيرون منهم بما يصدر عنها من فتاوى يتم صرفها على شكل أعمال عنف وتقتيل إذا لزم، من دون وجود شرط التنسيق العياني أو حتى الاتصال التقليدي. تكفي إيماءة المرجع أو فتواه للقيام بما يلزم، واللقاء سيكون في الجنة حيث الثواب.
ثمة نوع من التواصل الروحي الذي لا تكتشفه أجهزة الرقابة وفلاتر الحدود وشبكات الإنترنت: هكذا ينجح المتطرفون في تنفيذ عملياتهم في قلب العواصم، حيث ينعدم الوجود الفيزيائي لتلك المرجعيات، وخارج الجغرافيا التي تستحكم فيها تلك المرجعيات الثقافية.
ثقافات الطوائف أيضا، إن شرارة واحدة أو فتوى أو توجيه يصدر عن مرجع ذي مكانة طائفية ثقافية يكفي لإشعال حرب لا تبقي ولا تذر مع طائفة أو طوائف أخرى داخل المجتمع الواحد، ثم على نطاق العالم وبالطريقة ذاتها: يتنادى حاملو ومعتنقو ومريدو الطائفة حول المضمون الثقافي لتلك الفتوى، ويبدأون صرفها بما يتاح لهم من وسائل وأدوات، إلى حد أن الواحد منهم قد يطلق زوجته ويعادي أصدقاء عمره لأن جذورهم الثقافية تنتمي إلى طائفة أخرى. ولا تسلم الجغرافيا من شرور التعددية الثقافية التي أحدثت انفصالات وانقسامات في كثير من الدول التي كانت آمنة موحدة: السودان، العراق، يوغوسلافيا السابقة، دويلات الأفارقة وقريبا إسكندنافيا ذات الثقافة المختلفة عن شركائها في المملكة المتحدة، وكاتالونيا التي لم تتمكن من هضم فكرة التماهي في الثقافة الإسبانية ومجتمعها، ولسوف يأتي الوقت الذي تطل فيه التعددية برأسها كي تزلزل مجتمعات ودولا عظمى: أمريكا مثلا. لم لا؟ أما موضة المحاصصات في الدساتير فليست سوى نتاج مشوه للتعددية الثقافية وظلالها الماحقة، إنها الوصفة الأكثر شيوعا ونجاعة لتمزيق المجتمعات والسماح بتحويلها إلى تقاطعات ومقاطعات أبعد ما تكون عن البناء المدني حيث العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص. بالطبع فالمشكلة لا تكمن في الثقافة ذاتها بالضرورة، أو في التعددية الثقافية، فهي قائمة منذ مئات السنين، لكنها لم تستيقظ على نحو مفاجئ إلا في العقد الأخير من القرن العشرين، بسبب التوظيف السياسي المتعسف لمضمونها. لا يوجد حتى اللحظة حل لمعضلة التعددية الثقافية وآثارها المدمرة، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى إمكانية وقف زحفها أو على الأقل، توظيفها في خدمة المجتمعات والأوطان بدلا من نخرها. هذا يدعو إلى توجيه نداءات عاجلة للبحث في هذه التعددية ومخاطرها والحلول الممكنة لتجنبها، نداءات من نوع: «هذا ليس تمريناً» إنما نحن على أعتاب كارثة إنسانية عامة.
ما يثير القلق حقا، أن الناس في هذا الزمن لا ينتصرون للأوطان، بقدر ما ينتصرون بحماسة وفجاجة للثقافات العابرة لها، حتى لو أدت إلى تدمير تلك الأوطان.
(القدس العربي)