هل الرواية نوع تاريخيّ هجين متحوّل؟

الجسرة الثقافية الالكترونية
*منصف الوهايبي
المصدر / القدس العربي
نصوص كثيرة ظهرت في مختلف العصور، ولكنّها ظلّت ملتبسة، إذ لم يهتد التّصنيف إلى حسم أمرها، ولعلّها أقرب ما تكون إلى نمط من الأدب الروائي «الملحمي» بالمعنى الواسع للكلمة. ويمكن أن نشير في هذا السّياق إلى لوكاتش في «نظريّة الرّواية»؛ إذْ يقدّر أنّ هناك شكلا جديدا للملحمة يعلن عن نفسه في بعض أعمال دوستويفسكي. غير أنّه بغضّ النّظر عن طرافة هذا التّأويل، فإنّه قد لا يجوز التّغاضي عن القيمة الجماليّة للملحمة المرتبطة بشكلها الشّعريّ؛ وهذا الشّكل ليس شكليّا البتّة، فالملحمة ليست مجرّد حكاية أو قصّة؛ وإنّما هي تحقّق خصوصيّتها بواسطة سحر الإيقاع وبواسطة الالتجاء إلى شكل مُطقَّس وشبه موسيقيّ، حيث يتمّ تنزيل الكلمة منزلة أرقى من اللّغة العادية، وباختصار فإنّ الملحمة قصّة شعريّة مقدّسة، صُنعتْ لها قدسيّة خاصّة بها.
وكما يبيّن أرسطو في «فنّ الشّعر» فإنّ الملحمة عمل محكيّ أو مسرود، وهو في تقابل مع التّراجيديا من حيث هي عمل ممثّل؛ فالتّراجيديا تتدبّر أمرها بالتّعويل على ممكنات الإخراج وحوامل العرض، في حين يتعيّن على الملحمة أن تثير المتقبّل بواسطة الألفاظ فقط. وإلى ذلك فإنّ فعل التّراجيديا محدود بسبب شروط التّمثيل المسرحيّ؛ مثلا من جهة ديمومتها، في حين لا تخضع الملحمة لمثل هذه القيود ويمكن أن تغطّي مساحة زمنيّة أكبر، وأقدّر أنّ نصوصا «روائيّة» عربيّة تتنزّل في هذا السياق.
على أنّه من السّائغ في الدّراسات الأدبيّة، أن ينقّب القارئ عن خصائص الجنس الأدبي، من حيث هو نوع نظريّ أو مفهوم نوعيّ، عسى أن يدنيه من خاصّة العمل المقروء، ويوقفه على مدى قربه من نصوص أخرى تنضوي، أو تنضمّ إلى ذات الجنس، أو بعده عنها. إنّما ينشأ الإشكال كلّما اتّخذ القارئ هذا النّوع نموذجا أو قاعدة- معيارا للحكم والتّمييز بين النّصوص، وأوجب على الكاتب أن يمتثلها ويحتذيها. وفي هذا إجحاف بالنّصّ، فقد ينشد القارئ من المقايسة، ميزة بعينها، وهو يطابق بين النّصّ والنّوع. وقلما عكس الأمر وبدأ بالنّصّ عسى أن يكتشف ميزته الخاصّة التي يمكن أن تختلف عن ميزة النّوع.
على أنّ هذا الضّرب من المقايسة أو المطابقة كثيرا ما يصلح في إظهار الأنماط النّوعيّة وسماتها الخاصّة، حتىّ إن تنقّص القارئ قيمتها أو ارتخص قدرها. وهذا من شأنه أن يسوق إلى القول إنّ استعمال مقول ما باعتباره قاعدة يجري عليها الجنس الأدبي، يفترض ثباتا ما، حتّى يحتفظ بصلاحيته ويحافظ على وظيفته التّقييميّة أو يكشف عمّا يمكن أن نسمّيه نظاما من التّمثّلات المعياريّة أي التي يٌقاسُ عليها.
إذا كانت الأنواع أو الأجناس ثابتة، فإن أشكالها متغيّرة لا شكّ. وطالما اعتبرنا أنّ مدار الخطاب إنّما هو على ذات وعلى خبرتها باللغة وبالعالم، أمكن أن نتوقّع تبدّلات الشّكل والأسلوب وأن نتقبّل حتّى أكثرها غرابة وشذوذا، بحيث نرى القيمة الجماليّة في المتغيّر من الأشكال، أكثر ممّا نراها في نموذج يُحتذى أو قاعدة- معيار يُمتثل بها. وهذا لا يعني أنّ القاعدة شأن نقديّ ليس إلاّ أو أنّ النصّ طليق من أيّ قاعدة أو هو يسوح، حيث أراد وأينما شاء له سبيله المرسوم.
ولعلّ في هذه الافتراضات التي نفترضها على العلاقة بين القاعدة والنصّ ما يبيّن أنّها علاقة شدّ وجذب، وأنّ النصّ ليس بالضّرورة حصيلة قاعدة، بل لعلّ القاعدة الروائيّة شأنها شأن القاعدة الشعريّة، تكمن في خرق القاعدة أو الخروج عليها.
فثمّة درجات من المقبوليّة تختلف باختلاف الموقف الذي يتّخذه الكاتب من القاعدة. والنوع الأدبي أو الجنس إنّما ينهض على قاعدة أو مجموع قواعد، قد يلتزمها الكاتب وقد لا يلتزمها، بل ربّما حافظ عليها وخرقها في الآن ذاته، أو استبدلها بأخرى؛ لأنّ ثبات القاعدة لا يحظر إمكان تغييرها،
أ- إنّ وجود القاعدة لا يترتّب عليه ضرورة حدوث مطابق لها. والنّصّ المطابق للقاعدة إنّما هو جائز أو محتمل.
ب- يفترض في الكاتب أن يعرف القاعدة التي يلتزمها أو يخرقها ويخالفها، ما دام النصّ محكوما بقصد أو منضويا إلى جنس بعينه.
ج- للكاتب إمكان أن يتّبع القاعدة أو ألاّ يتّبعها.
د- ما نستنتجه من»ب»و»ج» أنّ ما يعدّ»خطأ» أو «مخالفة»أو «تقصيرا» من الكاتب، إن هو إلاّ حرف قاعدة أو حيْد عنها.
هـ – إذن ليس ثمّة خطأ أو مخالفة أو تقصير من دون قاعدة. وكذا العكس بالعكس.
أهمّ ما نخلص إليه من هذه الافتراضات أنّه من الصّعوبة بمكان أن نرى في معياريّة القاعدة أيّ شكل من أشكال «نقاء النوع» باعتباره نوعا نظريّا ثابتا لا ينبغي أن يمتزج بغيره. على حين أنّ المبدع أو المنشئ يسهم في هذا التّقليد، إمّا بتحقيق الاحتمالات الكامنة فيه، أي تلك التي لم يدركهاالسابقون؛ كأنْ يعيد تجميع التّقاليد الأشدّ عراقة، ويفتتح فيها وبها سبيلا غير مطروقة، أو حتّى بالانقطاع عن التّقليد نفسه. ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر في كثير من «رواياتنا» من حيث هي نوع تاريخيّ متحوّل له خصائصه. وهذا لا يتسنى إلاّ بوصف الخطاب بحثا فيه عن الصّيغة التي تنتظم النوع أو الجنس، ووقوفا على القانون الذي يشتمله وعلى وجوه التحرّر منه. وأساس ذلك إنّما هو العنصر السّائد المتسلّط على هذا أو ذاك الذي يحكم بقيّة العناصر ويتصرّف فيها؛ ونعني به ها هنا قانون المشابهة وقانون المجاورة. وعلى ضوئه يمكن أن نصنّف الرواية إلى خطابين، قد يكونان متلازمين أو متفارقين: استعاريّ وكنائيّ.
فلعلّ تصوّرا كهذا الذي نقترحه أن يجعل طريقتنا في قراءة النصّ الروائي أغنى وأحكم نظاما، وأن يساعدنا على إدراك أهمّ الصّلات والتّعارضات بين الأنواع أو الأجناس الروائيّة، وفهم الكثير من أسباب التّفاوت، تفاوت إنشائيّة الخطاب عند الكتّاب العرب؛ فبعضهم يكتب بـ»الفصحى» وفيها، وبعضهم يجمع بين فصيح وعامّي، وبين لغة شعريّة استعاريّة أو لغة روائيّة كنائيّة، أو هي ذات بعد رمزيّ. فلعلّ هذه الاستثناءات أن تعزّز تصوّرنا، وتؤكّد رأينا في أنّ الرواية ليست أنواعا أو أنماطا ثابتة، وإنّما هي أشكال متغيّرة متحوّلة.