هل يستوي الذين يعرفون والذين يفهمون؟

توفيق قريرة
ونحن ننجز كلامنا اليومي نمارس في الحقيقة نشاطين كبيرين لهما صلة بالإدراك هما: الفهم والمعرفة. الفهم يعني به علماء النفس اللغويّ قدرة على أن نتمثّل كلمة أو جملة أو نصّا؛ ويعنون به أيضا القدرة على تحديد الأسباب أو الحوافز المتعلقة بعمل ما قد يكون ذلك العمل عملا قوليّا. ففي التواصل اليومي بيني وبين غيري تطرح عليّ أسئلة عليّ فهمها قبل أن أردّ عليها ولكنني لن أفهمها إلاّ إذا كانت عباراتها وجملها مفهومة في كليتها.
ويقتضي الفهم منّي أيضا أن أعرف مثلا الأسباب التي جعلت شخصا ما يوجّه إليّ أنا بالذات تلك الأسئلة، ولكن وقبل ذلك عليّ أن أعرف تسلسل تلك الأسئلة في سياق من التواصل مخصوص.
إلاّ أنّ المعرفة في أبسط مظاهرها هي الاعتقاد الصادق والمبرّر. فنحن مثلا في كلامنا اليومي نستعمل معارف بهذا المفهوم، فحين يسألني سائل إن كنت صعدت الدّرجَ وحدي أم مرافقا؟ فإنّه يعرف أنّي أعرف ما الدَّرج وما الصعود وما المرافق معرفة موسوعية مستمدّة من تجربتي الثقافية مع هذه الأشياء ومتصوّراتها، فضلا عن معانيها التي لها وهي معان ليست، كما هو معلوم، منفصلة عن المعرفة الموسوعيّة بهذه الأشياء. وبناء على ذلك قيل إنّ المعرفة هي علاقة أو بنية تجمع بين جملة من التمثيلات التي يمكن أن تتشكل في الكلام في جُمل أو بلغة المناطقة في قضايا، وهي أيضا مجموعة من المضامين المخزّنة في الذاكرة ذات المدى الطويل.
إنّ الفهم والمعرفة شيئان مُتعاملان في النشاط الكلامي ما في ذلك شكّ فنحن لا نفهم من غير معرفة موسوعية سابقة بمعاني الكلمات وبمعطيات المقام النفسية والثقافية وغيرها. لكنْ ما يعنينا في هذا السياق هو تداخل المستوييْن في ضرب من أنشطة الشرح والتفسير، بدءا من شرح المعلم درسا معينا للتلاميذ وصولا إلى شروح دقيقة كشرح الشعر القديم أو تفسير القرآن الكريم.
في الكلام اليومي لا نحتاج أن نطرح أسئلة عن الفهم الأساسيّ أو المبدئيّ للكلام بحكم أنّنا نفهم، مبدئيّا، ما يقال لنا، ويفهم غيرنا ما نقوله له؛ لكنّنا قد نحتاج أن نطرح أسئلة عن الفهم الثاني أو المترتب على الفهم الأوّل ومن بينه فهم مقاصد الكلام. وقد تُطرح أسئلةٌ لتوجيهنا إلى المقاصد، غير أنّه سيكون من السُّخْف أنْ نسأل محدّثنا في كلّ مرّة عن مقاصدنا؛ فحتّى المقاصد تتطلب منّا أن نبنيها بأنفسنا في الغالب، بناء على خطة فهم معينة. فلو قال لي مُضيّفي: هل أعجبك الشاي؟ وفهمت من سؤاله أنّه يستزيدني أو يستحثني على مدح كرمه، فإني سأكون قد بنيت نيّة السؤال على فهم معيّن قد يعنيه وقد لا يعنيه، ومعرفتي بالشخص وبطبخ الشاي الممتاز أو الرديء هي التي ستعينني أيضا على بناء ذلك الفهم. وفي الكلام اليوميّ نبني معارف إمّا بالسؤال وإمّا بالاستفادة ممّا يقال لنا؛ فالكلام وإن كان ليس القناة الوحيدة للمعرفة فإنّه أفضل قنوات التعبير عن المعارف حين تُنقل بالكلام. عندما أسأل الشرطي مثلا من أين عليّ المرور للوصول إلى مكان معين فإنّه سيبني لي معرفة آنية بالكلام ويمكن أن يسلمني خريطة أستهدي بها فبناء المعرفة الأولى كلاميّ وبناء الثانية علاميّ أو إيقوني.
غير أنّ كثيرا من الكلام الذي نتعامل به في حياتنا اليومية في المدرسة أو غيرها يحتاج منّا فهمُه الأوّلي إلى جهد وإعانة، وبالطبع يحتاج فهم المقاصد فيه إلى جهد آخر؛ وليس ههنا الإشكال، بل الإشكال في تداخل الفهم والمعرفة، فحيث تطلب فهما تجد وسيطا يبني لك معرفة لا تقود إلى تحقّق الفهم. وعندئذ تكون المعرفة مبلبلة للفهم وليست معينا لها. هذا يحدث في التعليم حين يطرح المتعلّم سؤالا دقيقا في معرفة من المعارف فيغرقه المعلّم بكمّ من المعارف تزيد في غموض المسألة التي كان يطلب فهمها؛ ويحدث الأمر عندما يسأل المواطن البسيط سياسيّا عن مسألة فيغرقه بالمعلومات والأرقام فيميّع السّؤال ويعوّمه هروبا. ويحدث هذا أيضا وكثيرا في الشروح القديمة للشعر وفي التفاسير القرآنية.
لنأخذ على سبيل المثال بيتا من معلّقة زهير بن أبي سلمى يقول فيه: (فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله * رجالٌ بَنَوْهُ من قريش وجُرْهُم). ما من شكّ في أنّ الأمر يتعلّق بالقسم بالكعبة، بيد أنّ هذا الفهم إذا تحقق لا يكفي إن لم تفهم مسألة تاريخية (أو لعلها أسطورية) تتعلّق ببناء قبيلتي قريش وجُرهم للبيت الحرام. حين لا يصل من يطلب الفهم الأوّليّ من هذا البيت إلى المطلوب سيكون كأيّ ناقص لمعرفة لا يتذكّرها، لأنّها لم تخزّن لديه وعندئذ سيقتضي الفهم معرفة بعينها. في «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» أسهب الأنباري في شرح هذا البيت (ص 253-260) فعاد إلى قصّة بناء الكعبة وولاية أبناء إسماعيل البيت ثمّ انتقال الأمر إلى جُرهم وانتقالها إلى خزاعة وتقسيم خطط ولاية البيت فيها إلى أن انتقل الأمر إلى قريش.. وبعد هذه المعلومات لا يمكن أن يصل الباحث عن الفهم إلى معنى، بل إلى بناء جزء من المعـــــرفة بتاريخ ولاية بعض قبائل العرب للبيت؛ وهذا لا شأن له بفهم المقاصــــد من ذكر قريــــش وجــــرهم في هذا السياق من الكلام. إنّ الشارح يبني ههــنا معرفة ولا يبني الفهم فبناء المعرفة يتبع خطة سرد معلومات تاريخية أو غيرها بهدف الجواب على ســـؤال مفترض هو في سياق الحال: من تولّى أمر البـــــيت الحرام؟ وليس من بناه؟ بينما سؤال الفهم يقتضي أن نتقيــــّد بالسياق الذي فيـــه القول ويكون محصورا ومضيّقا بسؤال: لمَ ذكرت جرهم وقريش في سياق مخصوص من قَسَمِ الشاعر بالبيت الحرام؟
وفي تفاسير القرآن هذا المنحى من التنكيب عن الفهم إلى البحث عن بناء معارف عقدية وأسطورية قصصية وتاريخية وحتى لغوية، بل إنّ بعض الآيات تبدو من غير تفسير أكثر بيانا ووضوحا ممّا هي بالتفسير (انظر على سبيل المثال تفاسير القرطبي والطبري وابن الأثير وغيرهم لقوله تعالى «وهْوَ الذي أنْزَلَ من السّماء ماءً فأخْرَجْنَا به نباتَ كُلِّ شَيْءٍ..» ) الأنعام: 99.
خلاصة الأمر أنّ هاجس بناء الفهم هو هاجس إدراكيّ معقّد من شأنه أن يقود المستمع أو القارئ إلى تفكيك شيفرة الكلام ؛ وهو غير هاجس بناء المعرفة. قد يتعامل الهاجسان ولكنّهما قد يتنافران، ولا سيّما إذا كان الذين يبحثون عن الفهم، في سياقات معرفية مخصوصة، يطلبون شيئا من بُنَاةِ المعارف ويعتبر هؤلاء أنّ تحصيل الفهم أقلّ ممّا يتطلعون إليه من استعراض المعارف التي لديهم فيقفزون إلى مستويات أعلى من المتطلبات؛ عندئذ لا يستوي الذين يفهمون والذين يعرفون. إنّ أقصى ما يطلب التواصل بالكلام أن يتعامل الفهم مع المعرفة. غير أنّ كلامنا ههنا يجب ألاّ يقود القارئ إلى فهم مذموم: إنّ العارف شخص والفاهم آخر.. إنّما هما بعدان من التواصل بالكلام البشري.
(القدس العربي)