«ولدتُ لأكون أزرق» للكندي روبرت بودرو: سيرة عازف الموسيقى بين الترامبيت والهيروين

سليم البيك: قد يكون السؤال الأهم فيما يخص أي فيلم سيَري (بيوبيك)، يروي سيرة حياة إحدى الشخصيات العامة، في الفنون، الآداب، السياسة.. الخ، هو أي جزء من هذه السيرة سيتم تناوله؟ نفترض مسبقاً أن الفيلم لن يطمح لتصوير سيرة أحدهم منذ ولادته حتى وفاته، فيكون بذلك سرداً سريعاً جداً، ماراً بعجلة على المنعطفات، خالياً من تفاصيل تجعل الفيلم الرّوائي، حكاية تتطوّر وجديراً بالمشاهدة. والسؤال عن أي جزء من السيرة هو أولاً ســـــؤال الكاتب والمــخرج، وهو ثانياً سؤال المُشاهد الذي، بخروجه من الفيلم، يُفترض أن يكون قد اقتنع بأن ما نقله الفيلم من حياة تلك الشخصية هو صالح أساساً ليكون فيلماً، ليكون مادة روائية، وهو ما يسبب المتعة.
ليس هذا تماماً ما نجده هنا، في الفيلم الذي كتبه وأخرجه الكندي روبرت بودرو، «ولدتُ لأكون أزرق» (Born to Be Blue)، وهو اسم مقطوعة جاز عزفها العديدون، من بينهم تشيت بايكر الذي يحكي الفيلم جزءاً من سيرته، وهي المقطوعة التي ينتهى بها الفيلم، والتي كانت بمثابة إعلان لعودة بايكر إلى الموسيقى، كواحد من أفضل عازفي آلة الترامبيت آنذاك.
بدأ الفيلم بداية جيدة، قوية، ثم تراجعت الحكاية فيه وصارت بطيئة ورتيبة، لا تطورات لافتة فيها، لكن الفيلم، أكمل جودته وقوته من ناحية الصورة أولاً والأداء ثانياً، خاصة مؤدي دور بايكر، الأمريكي إيثان هوك الذي أجاد في ذلك شكلاً وصوتاً، تصرفاً وحديثاً وغناء. وأداء الشخصيات الرئيسية في أفلام السيَر الذاتية هو من بين الأكثر صعوبة على مؤديها، إذ يُحتّم عليه التقليد إلى درجة التقمص لشخصية يمكن الرجوع إليها عبر الإنترنت لاختبار إلى أي حد كان الأداء ناجحاً، فلسنا هنا أمام شخصية مختلقة متخيَّلة، نشاهد من خلال الأداء تجسيد الممثل برؤيته ورؤية المخرج لها، وهي تكون أخيراً كما تبدو في الفيلم دون معايير للصح والخطأ.
البداية القوية للفيلم كانت بالأبيض والأسود، نشاهد تشيت بايكر وقد أنهى إحدى حفلاته، في الخمسينيات من القرن الماضي، يدخل إلى غرفة في فندق مع امرأة، ينادي زوجته فلا يجدها، يدخلان ويستلقيان على الصوفا وهما في حالة سكر خفيفة، تبدأ المرأة بإخراج حقنة لتعاطي الهيروين، يخبرها بأنه لم يجرب الحقن من قبل في تعاطيه، تدخل عليهما زوجته، وهنا تتحول الصورة إلى ملوّنة ونعرف أنّنا كنّا نشاهد فيلماً سيَرياً داخل الفيلم السيَري الذي نشاهده، يتوقّف التصوير ونخرج من الفيلم الذي سنعرف أن إنتاجه توقّف وأنه لن يرى النور بسبب بايكر نفسه، ونبقى في الفيلم الذي يروي سيرته اليوم، وهو المشارك في مهرجان «تورونتو» السينمائي، والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية.
بعد ذلك، اتّخذ الفيلم خطاً روائياً رتيباً نوعاً ما، يحكي فيه عن المرحلة من حياة عازف الترامبيت التي عانى فيها من تراجع مريع في أدائه كعازف لسببين، أولهما تعاطيه الدائم للهيروين والثاني آلام في فكّه وفمه.
أما التعاطي، فسنعرف أنّه لم يتركه، حتى وفاته، أنّه استمر في تعاطيه قائلاً لمدير أعماله الذي جهد كي يجعله يتعالج، بأنّه لن يستطيع العزف دون الحقنة. أما الآلام فأساسها كذلك تعاطيه، لكنها كانت السبب المباشر في عدم قدرته على العزف لعدة سنين. حين كان في قمّة عطائه الموسيقي، وكان يمثّل، هو نفسه، دور تشيت بايكر في الفيلم الذي يروي قصة حياته، كان أثناءها خارجاً مع الممثلة التي ستصير زوجته، والتي أدّت دور زوجته في الفيلم قبل ذلك، هناك سيعتدي عليه ثلاثة شبّان، يضربونه، ثم يزيدون الضرب على فمه قائلين ألا موسيقى بعد اليوم. أما السبب فهو شراء بايكر منهم الهيروين وقد تأخر في سداد ثمنه.
يحصل ذلك في الربع الأول من الفيلم، ويستمر بعدها الفيلم في سرد حكاية بايكر في العلاج، من آلام فكّه وفمه وتكسّر أسنانه ومن الهيروين. والصعوبة في استعادة العزف كانت أساساً تقنية، فحتى مع أسنان اصطناعية ركّبها له الطبيب ليستطيع النفخ جيداً في الآلة، لم تكن الأسنان المركّبة كافية ليعود إلى مجده الموسيقي، إلا لاحقاً، كما يبدو، إذ تعوّد على النفخ بها.
كان يمكن للحكاية أن تكون أكثر جاذبية، فليس في رحلة العلاج من المخدرات وآلام الفك ما يمكن أن تُبنى عليه حكاية جديرة بفيلم. لكن في مقابل ذلك قدّم الفيلم تعويضاً لمشاهده من ناحيتين: الشكلية، فكان التصوير جيداً، الألوان والأداء وكذلك الموسيقى في الفـــــيلم، ولم يتم اســـــتخدام مقطوعات بايكر ذاتها، بل تمّ عزفها خصيصاً للفيلم، ومن الناحية المعرفية/التـــوثيقــية، فنحن أمام فيلم يروي حكاية جزء من سيرة أحد أهم عازفي الترامبيت في العالم.
كما تمتّع محبّو موسيقى الجاز بفيلم «ويبلاش» لداميين شازيل قبل سنتين، سيتمتّعون، غالباً، بفيلم «ولدتُ لأكون أزرق» (بعنوانه الجميل، وبلعبه على كلمة أزرق، و«بلــــوز»، النوع الموسيقي)، أفترض الأمر ذاته كذلك في فيلم ننتظر أن يخرج قريباً إلى الصالات، يتناول سيرة عازف ترامبيت آخر هو مايلز دايفيز، هو الأفضل عالمياً كما يعتقد الكثيرون، أما الفيلم فاسمه «مايلز متقدماً» لدون تشيدل.
(القدس العربي)