كتاب عراقيون: ثقافتنا الآن نتاج بنية اجتماعية عرجاء

الجسرة الثقافية الالكترونية
صفاء ذياب
ما الذي يمكن أن ينتجه القمع؟ ربما يبحث هذا التساؤل في بنيات عدّة، منها الاجتماعية أو السياسية أو التربوية، لكن هذه البنيات جميعاً تصب في مجال أكبر الذي يتمنى جميع أفراد أي مجتمع أن يغير من تفكيره وطرائق تعليمه وكيفية سلوك أفراده، وهو المجال الثقافي. فبعض الأدباء يرون أن ما وصلت إليه ثقافتنا العراقية هو بسبب القمع الذي لا ينتج إنساناً سوياً.. فهل أن ما يحدث الآن هو بسبب بقايا الإنسان المقموع، الذي أنتج اللص والقاتل والمرائي والمثقف الطفيلي؟
إذا كانت أجيالنا الحالية لم تر ما حدث منذ عشرينيات القرن الماضي، والتحولات التي مرَّت بها الدولة العراقية، فأغلب المؤرخين وعلماء الاجتماع يؤكدون أن القمع طبيعة ليست جديدة على الحكم في العراق أولاً، ومن ثمَّ انتقلت هذه الطبيعة إلى الفرد العراقي، وهو ما دفع المثقف والكاتب إلى الانضمام تحت وصاية الحروب وقادتها، فانطلقت الكتابات التعبوية التي تحفز العراقي لدرء الخطر المقبل من الشرق أولاً، ومن ثمَّ من الجنوب، ليستمر هذا الخطر بالسير سريعاً من الجهات جميعاً، وكأن هذا الخطر استفحل بنفسه وجاء طارقاً أبواب مجتمع متماسك لا يريد للريح أن تحرك أضلاع نوافذه… في حين أننا ندرك؛ كعراقيين، أن ما مرَّ بنا غير كل شيءٍ في تفكيرنا وبنياتنا الاجتماعية حتى أنتجنا ثقافة مغايرة، تبرّر القمع بحجة الدفاع عن النفس…
ما قبل المدنية
يقول محمد عطوان؛ أستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة، لا شك أن أي خطاب سلطوي أحادي؛ هدفه تسوية التناقضات الإيديولوجية، وتجريف التعارض المصلحي بين الطبقات، وتبعاً لهذه النزعة الأحادية، فإن القيم المتعارضة تنخفض لمصلحة صعود قيمة واحدة حسب، يعمل حاملوها على إعادة ترتيب مجال الهيمنة بصيغ ومعايير اصطفائية..
ويضيف: في العراق على سبيل المثال؛ فسح تآكل الطبقة الوسطى في السبعينيات المجال لصعود طبقة شعبوية بديلة ذات مرجعيات ريفية نافرة من المدينة، وبالتالي راحت هذه الطبقة تتشامخ حيال قيم المدينة، وبدأ أفرادُها، كشرائح اجتماعية محتفية بـ»المأثورات العرفية»، بالتطلع إلى مقامات الريف والوجاهة البدوية الفارغة، والانشغال- كأولوية في إيديولوجيا عملهم السياسي- بإشاعة الأعراف والسنن المحلية ما قبل المدينية. الأمر الذي صارت فيه قيمهم- بحكم التكرار والاستمكان- عناوين السلطة السياسية العليا وموضوعاتها الرئيسة. وما النسخة السبعينية إلا النسخة ذاتها المتشكلة بعد عام 2003، وإن تغيرت أشكالها ومسمياتها.. لذلك أخذ سلوكهم (بنى عشائرية، تحزبات طائفية، فصائل ميليشياوية)، بعداً سياسياً تقليدياً، فأصبحت السُلطة في ذلك هي الثابت وما عداها هو المتحول. وبوصفهم يمثلون نخب الهوامش الجُدد، فإنهم بحكم السيطرة على المجال، احتلوا منصات التمثيل الحكومي، أكاديميين ورجال أعمال من طبقات مُتدنية تُغريهم النفعية السياسية الفجة، وقادة أحزاب وسياسيين مؤدلجين بدين شعبي، ومثقفين وإعلاميين يشيعون فرجة جمالية متدنية. هؤلاء جميعهم؛ راحوا يؤلفون نظاماً علاماتياً جديداً لحراسة القيم، وللسيطرة الاجتماعية الجديدة، ويدافعون- من منظورهم- عن قضايا ذات سمة أخلاقية وسياسية من شأنها أن تحظى بالإجماع، وتخص مسائل الشأن العام في معركة استملاك المجال.
أنساق متناقضة
الكاتب والباحث في علم الاجتماع واثق صادق يعترض على كلمة (بقايا) التي ذكرتها في السؤال المطروح عليه، إذ يرى أنها ليست بقايا الإنسان المقموع، بل يمكن الذهاب إلى القول إنها تجليات الإنسان المقموع، ونتائج صيرورته مقموعاً في بنية اجتماعية متناقضة ضاغطة في الوقت نفسه.
فليس من الصعب، اجتماعياً ونفسياً، صياغة نموذج مقهور ومقموع في البيئة الاجتماعية العراقية التي لم تعرف السكينة والاستقرار على مدى عقود عدة متتالية، في العصر الحديث، أو ضاربة في القدم، على امتداد القرون الماضية التي كان فيها المجتمع العراقي خاضعاً لنماذج شتى من العقائد والاحتلالات الخارجية.
لهذا، فإن خلاصة الشخصية الحالية، العنيفة بطبيعتها، هي نتاج طبيعي لهذا التتابع والتلاحق من القهر والقسر والسحق الذي مورس على الإنسان، متمثلاً في العديد من الأنساق الاجتماعية، السياسية والاقتصادية والقانونية وغيرها.
وهنا، تعمل هذه العوامل مجتمعة، عبر الزمن، لتأطير السلوك الاجتماعي، دافعة بالثقافة المجتمعية إلى هوّة العنف الذي يعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال، وعبر استمرار المنظومات غير السليمة، ثقافية، وسياسية، واجتماعية، مكرهة الفرد على إنتاج مزيد من العنف في مستوياته المتعددة. ويتغلغل العنف حتى إلى وظائف العائلة الأساسية، وفي مقدمتها التنشئة الاجتماعية، ليبدو أن قسطاً وافراً من إعادة إنتاج القهر والعنف الاجتماعي يتقرر ويتبلور في طبيعة تلك التنشئة التي تعتمد على المصادرة والتسلط والفوقية القائمة على قيم وأعراف ثقافية ذات مصادر متنوعة، فضلاً عن العقاب الذي يعتمد كفلسفة تربوية من قبل أصحاب الدور الأعلى في الأسرة.
مضيفاً أنه لا يمكن أن ننسى أن هذه الأسرة، هي تحصيل حاصل لثقافة مجتمعية شاملة، وكما هو معروف، عبر كتابات علي الوردي، فإن المجتمع العراقي قائم في إحدى زواياه على التنافس، والتغالب، والقهر النابع من القيم البدوية الوافدة، وهو ما يستدعي بالضرورة، تحكيم الروح العدائية، والتصارع من أجل المصالح، وتقاطع الغايات والوسائل.
من جانب ثان، يعبر العنف والقهر عن انعكاس واضح للتناقض والخلل الصريح في البناء الاجتماعي، وبالتالي في النظام الاجتماعي القائم، وهو هنا، يعني ذلك التناقض في الأنساق الذي يشمل النظم السياسية والاقتصادية والثقافية بشكل عام، ويعكس عدم قدرة الأفراد على تأمين مستويات حياتية مقبولة تحفظ كرامة الفرد في الهيئة الاجتماعية، والناتجة في الأساس من غياب العدالة الاجتماعية واتساع مديات الفقر، وعجز الدولة عن سد حاجات الأفراد.
مسوخ بشرية
من جانب آخر يشير الكاتب سعد محمد رحيم إلى أن الفاشيات والديكتاتوريات المستندة إلى إيديولوجيات شمولية تسعى إلى تنميط السلوك الإنساني، وفق تصوراتها، فهذه الأنظمة تفرض على الرعية في النهاية أسلوب وجود وطريقة حياة، وإن كانا مهلهلين وتعيسين إلى أبعد حد.. فهي لا ترغب إلا بالفرد الفاقد لفرادته وكرامته، والخاضع لمقتضيات السلطة وشروطها.. وبذا فهي تخلق البيئة النفسية والاجتماعية والثقافية التي تصهر الفرد في القطيع الممتثل.. إنها تعمد إلى ترك تشوهات عميقة في الذهن وفي الكون النفسي، يفضي بالفرد إلى التخلي لا عن حريته وكرامته الإنسانية فحسب، وإنما عن أحلامه أيضاً، والنتيجة تحويل الكائن الإنساني إلى محض مسخ ليس له حول ولا رأي مستقل، ولا حق في الاختلاف والتميز. أما الوسيلة التي تلجأ إليها الأنظمة الفاشية والديكتاتورية لتحقيق ذلك فهي القمع والتخويف.. وهكذا يبدأ المرء بالشك فيمن حوله، والخوف من أي أحد آخر والتردد، فهو مع هذا المآل منزوع الإرادة، ومخنوق الضمير..
ويعتقد رحيم أن هذا يفسر، بشكل عام، حالة الرثاثة في السلوك والفعل وفي التعاطي مع النفس والعالم، التي وصل إليها كثير من أفراد مجتمعنا.. وكما نرى فإن عقابيل الأنظمة الفاشية والشمولية والآثار التي تخلفها لا تزول بإزالة تلك الأنظمة، بل تتحول إلى جرثومة في النفس والعقل إلى أمد طويل، وتتسبب بخلق ظاهرات اجتماعية سيئة كاللصوصية والطفيلية واستساغة الفساد بأشكاله والميل إلى العنف عند المقدرة والانتقام بطرق دنيئة والغدر، الخ.. وإذا كان الإنسان الاعتيادي معرّضاً إلى أمراض كهذه، فإن المثقفين ليسوا بمنجىً منها، وفي النهاية نجد نسبة لا يستهان بها من البشر وقد أصيبوا بالجرثومة بهذه الدرجة أو تلك، في مقابل أولئك الذين قاوموا باستماتة، ليحافظوا على نظافتهم الروحية والعقلية، وطهر ضمائرهم.. وهؤلاء وحدهم من يمكن أن نعوِّل عليهم ونجد فيهم الأمل وفرصة الخلاص وإن بعد حين.
في حين يكشف الكاتب جمال جاسم أمين أن أسوأ المثقفين هو من يكرس جزءاً كبيراً من جهده لتبرير الفشل، لأن الثقافة في جوهرها مكاشفة، بحث نزيه عن حقائق الأشياء من دون رأي مسبق ضاغط، لأنها بالرأي المسبق تسقط في فخ الإيديولوجيا، ولذا يجب أن نعترف بأن مشكلة المثقف لدينا هي اجتماعية في جوهرها، أي أن المجتمعات الأصولية والتقليدية المدعومة بثبات مقدس لا تنتج مثقفاً بالمرة، بل تنتج الشاعر؛ مثلاً، والرسام… أما المثقف باعتباره صانع تحولات وحامل رؤية تغيير عابرة لعقد مجتمعه فهي مهمة عسيرة قد توجد على صعيد أفراد لا يشكلون رقماً إزاء ثقافة القطيع.
ويتحدث أمين عن القمع المقصود في استمراره عن بحثه في هذا الموضوع، فلا يعده عاملاً أساسياً بعد أن ثبت عنده أن مثقفنا هو الآخر قامع من جهة أخرى، منتج لمدونات لا تقل ارتداداً من الكهنوت الذي يدعي المعاناة منه، مثقفنا كهنوتي بامتياز. مضيفاً أننا يمكننا معاينة صورة المثقف بعد عام 2003 وظهور نشاز المثقف الطائفي أو المنعزل الذي برّأ نفسه من هذه اللوثة، لكنه سقط في النخبوية، الحياد في زمن الموت وهو موقف لا يحسد عليه أيضاً. مؤكداً أن قلة من الجهود المتفرقة التي سعت لتأثيث فسحة نقدية جادة ظلت تعمل بعسر خارج دعم المؤسسات، لأن مؤسساتنا ظلت تحمل شعارات الثقافة لا الثقافة نفسها.. الثقافة بوصفها سؤالاً محرجاً وخطيراً والسبب أن ثقافة الأسئلة لا تحقق أي غنيمة ولا تبني سلطات ثقافية كالتي يتمتع بها سدنة المؤسسات.
ثقافة عرجاء
ويعد الشاعر عارف الساعدي الثقافة العربية عموماً نتاج نظرة أحادية، وليست الثقافة العراقية فحسب، وهي نتاج من يمسك بالحقيقة الأبدية ومن يعرف كل شيء.. إن كل هذه الأسباب وغيرها أنتجت لنا خطاباً ثقافياً مزدوجاً وازدواجياً في الوقت نفسه، فنجد شعراء؛ مثلاً، تعلو لديهم نبرة الأنا كثيراً، وحين تبحث عنهم تجد أن هذه الأنا العالية هي نتاج انكسار حضاري وفكري ومعرفي، لذلك يعوض عنه بهذا الضجيج ومثل هذا كثير في مرافق الثقافة المتنوعة، ولكن مثل هذه الخطابات لا تصنع زاداً معرفياً ولا حتى ثقافياً، بل هي تمس قشور الثقافة ومن بعيد، وبالنتيجة سنكون إزاء مثقف يصنع خطاباً تلفيقياً وبمرور الوقت تتحول هذه الخطابات إلى عادة وسلوك حياتي ويصبح جزءاً من مكون هذا المجتمع أو ذاك، وكل هذا الأمر يحدث تحت خيمة الجماليات لأنها أكبر طريق لتمرير تلك الخطابات الثقافية فتخرج لنا ثقافة عرجاء مشوهة تهتم بالديكور ولا يعنيها الجوهر.
المصدر: القدس العربي