أشباح الماضي بين ثقافتين

وائل فاروق

التقطوا الصور ثم رسموا خطوطاً بالطباشير البيض حول الجثث الساخنة، جاءت سيارات الإسعاف تسبقها صرخاتها الرتيبة، أخذت الجثث التي – على رغم برودة الليل – لم يفارقها بعد دفء الحياة ليضعوها في الثلاجات الباردة، جاءت سيارات النظافة أطلقت مياهها صوب الطباشير والدماء التي لساعات قليلة حملت ألقاب البريئة والزكية والطاهرة؛ لينساب نهر صغير من الأبيض والأحمر والأسود إلى مجارير المدينة. هاهي صور الضحايا، شعاراتنا، أيقونات الغضب، والفزع، والألم تتراجع أمام صور أجسامنا العارية التي لوحتها شمس البحر وهواؤه، لتعلن أن أي حدث في حياتنا مهما كان تراجيدياً لن يعيش أكثر من خمس عشرة دقيقة. ها نحن نعلن بوضوح: لم نعد في حاجة إلى التذكر أو النسيان، ففي عصر ما بعد السرديات الكبرى ليس ثمة ماضٍ، فقط حاضر يمتد بلا نهاية ليصطنع فضاءً يتسع للجميع. فضاء تتعدد فيه الحكايات الصغيرة إلى ما لا نهاية شرط أن تظل بلا ذاكرة، فليس هناك ما يهدد تعددية اليوم إلا أشباح الماضي. في شكل دائم، يهرب الأوروبيون من ماضيهم، بينما يهرب المسلمون إلى ماضيهم، فأي حاضر يمكن أن يجمعهم؟
تركت حربان عالميتان جرحاً غائراً في الوعي الأوروبي جعلته يرى في كل محاولة لتوليد معنى يحمل صفة الحقيقة للحياة، للإنسان، للمجتمع، للتاريخ؛ إقصاءً لما ولمن هو خارج هذا المعنى/ الحقيقة، وهو ما يؤدي إلى تهديد التعددية والسقوط في هوة جحيم الحرب والتدمير مرة أخرى. هكذا سقطت الحكايات الكبرى؛ سقطت الأيديولوجيا، وأخيراً سقط العِلم. خارج إطار الحكايات الكبرى أصبح على كل منا أن يصنع حكايته الصغيرة، ولكنها تولد ميتة لأنها لا تتسع – ولا ينبغي لها – لآخر. إذا ارتبطت بآخر ستفقد ما يكسبها شرعية وجودها وهي أنها زائلة عابرة، لا أثر لها إلا في عدد أيقونات الإعجاب والضحك والحزن على فايسبوك، فكل ما هو «كيف إنساني» قد تشيَّأ وتحول إلى «كم» من العلامات التي لا تسمح للمعنى أن يحول حكايتنا الصغيرة إلى حكاية كبرى وإنما يبقيها أسيرة لنمط يتكرر إلى مالا نهاية.
على الجانب الآخر ترك الاستعمار وما تلاه من تبعية سياسية واقتصادية وثقافية جرحاً غائراً في الوعي العربي، جعله يرى في كل محاولة لتوليد معنى جديد للحياة أو للإنسان أو للمجتمع ترسيخاً للذل والمهانة وتهديداً لصفاء الأصل الذي أصبح الإمكانية الوحيدة لغسل عار محبة الجلاد والتشبه به. هكذا أصبح الأصل هو الحكاية الكبرى التي تلتهم الحكايات الصغرى وتحرمها من أي إمكانية لتوليد المعنى، وكيف نولد معنى وكل ما نمارسه ليس إلا تكراراً أبدياً لأصل مثالي فوق الواقع والتاريخ؟
تبدو الحضارة الغربية اليوم كرجل اختار أن يخصي نفسه لأنه لا يريد أن ينجب طفلاً شريراً، بينما تبدو الحضارة الإسلامية كرجل يقتل أبناءه الذين لا يشبهون أباه الذي لم يره. يكذب الأول على نفسه بأنه ليس في حاجة إلى أبناء ولا يكترث للمستقبل ويكذب الثاني على نفسه بأن تشبُّه الأبناء بالأب الغائب سيعكس اتجاه الزمن. يكذب الأول على الآخرين حين يحاول أن يقنعهم أن قيمه النبيلة لا أصل لها ولا تاريخ. ويكذب الثاني على الآخرين حين يحاول أن يقنعهم أن قيمه النبيلة مازالت حية وأنها ليست مجرد قناع يخفي تفسخه الأخلاقي وانحداره الإنساني. ليست هذه دعوة إلى أن تتخلى أوروبا عن أهم ما يميز الحضارة الأوروبية المعاصرة وهي التعددية، إنها على العكس من ذلك دعوة إلى حماية التعددية مما بدأت تتحول إليه وهو «الجماعاتية» التي تعني انطواء كل جماعة ثقافية على نفسها، واصطناع حدود لا مرئية بينها وبين المجتمع الذي تشغل مساحة من فضائه من دون أن تشغل أي جزء من معناه أو هويته أو مستقبله، لأنه مجتمع لم يعد مشغولاً بتوليد المعنى، مجتمع تحول فيه الشخص إلى فرد – الفرد هو الشخص مجرداً من العلاقات الإنسانية – وتحولت فيه المعرفة إلى معلومات – المعلومات هي المعرفة مجردة من الخبرة الإنسانية – مجتمع فضاؤه العام فضاء فيزيائي لا يحمل أي هوية لأنه نسي أن أي فضاء لا يكون عاماً إلا بوجود الآخر. فالفضاء العام هو حضور الآخر بهويته وثقافته وليس غياب الأنا وتراثها. في إحدى حكاياته الشهيرة يفقد حجا مفتاح بيته فيقف فى الشارع أمام البيت ينظر في كل ركن ويقلب كل حجر بحثاً عن المفتاح الضائع. تعاطف بعض المارة مع الشيخ الحائر، فانخرطوا معه في عملية البحث حتى يئسوا من العثور على المفتاح الضائع، وهنا سأل أحدهم جحا أن يحدد المكان الذي سقط فيه المفتاح بالضبط فأجابه جحا: سقط داخل البيت. تعجب الناس من غفلة الشيخ وسألوه مستنكرين: لماذا إذن أجهدت نفسك وأجهدتنا معك بالبحث في الشارع؟ فأجاب جحا مستنكراً سؤالهم: لأن البيت مظلم والشارع مضيء.
مثل جحا نفضل الانخراط في الصخب والأضواء والأوهام. مثل جحا نعرف أننا مشردون روحياً وثقافياً، نعرف أن كل ما نقوله عن التعددية والتعايش والاندماج مفتاح تحقيقه هناك في ذلك البيت المظلم/ الأنا، لا وجود للآخر في غياب الأنا، ولا قيمة للتعددية في غياب المعنى، لا مفر اليوم من استرداد المعنى، لأن كل فراغ يتركه المعنى لن يملأه إلا العنف.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى