«أوراق العشب»… وجهُ ويتمان المتجدد

أحمد الصغير
في ألفِ صفحة تقريباً، أنجزَ الشاعر والمترجم المصري رفعت سلام، ترجمة لـ «أوراق العشب» للأميركي والت ويتمان، صدرت أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. «أوراق العشب»، ليس ديواناً منفرداً، بقدر ما هو صرحٌ يضم منجز ويتمان الشعري، والذي قال عن طبعته الأخيرة قبل وفاته: «إنني أفضل، وأوصى بهذه الطبعة، للنشر المستقبلي، كنسخة أو صورة طبق الأصل- حقاً- من نصوص هذه الـ438 صفحة».
وكتب الناقد هارولد بلوم، في مقدمة لطبعة «أوراق العشب» لمناسبة مرور 150 عاماً على صدورها للمرة الأولى: «لو كنتَ أميركياً، فإن والت ويتمان هو أبوك وأمك الخياليان، حتى لو لم تكتب سطراً شعرياً واحداً مثلي، يمكنك أن ترصد عدداً معقولاً من الأعمال الأدبية المرشحة لأن تكون الكتب المقدسة العلمانية للولايات المتحدة، لكن لا شيء منها يرقى إلى مركزية الطبعة الأولى من أوراق العشب». بذل سلام جهداً ملحوظاً في إنجاز ترجمة مبدعة، تضيف الكثير إلى عالم ويتمان، فترجمة الشاعر تختلف كثيراً عن غيرها.
ولعل ما يميز رفعت سلام هو أنه متخصص في ترجمة الشعر، إذ قدَّم من قبل أعمال بودلير ورامبو وكفافيس وريتسوس، وغيرهم ممن يمثلون نقلات نوعية في الآداب العالمية. جاءت ترجمة سلام لمنجز ويتمان الشعري، مختلفة، شاملة في طرحها، من خلال الغلاف والصور والمخطوطات، الحواشي والتفسيرات، والأمانة الفنية. في تقديمه لهذا العمل، يؤرخ سلام لمراحل كتابة «أوراق العشب»، وأولاها ترجع إلى العام 1850، وجاءت بعد مرور ويتمان على أجناس كتابية أخرى.
على نفقته الخاصة، طبِعَ ويتمان «أوراق العشب» في مطبعة صغيرة في بروكلين، في 95 صفحة، والمحصلة كانت 795 نسخة بلا اسم للمؤلف، مـــع الاكتفاء برسم شخصي له بالحفر للفنان صـــمويل هولير. حافظَ سلام على روح النــــص الشعري، كما أراده ويتمان، من خلال دلالاته، وتأويلاته المتنوعة. وارتكز سلام في ذلك علــــى أسلوب ويتمان الشعري نفسه، ومنه مثلاً التكرار، فيقول: «ثمة سمة أسلوبية مهيمنة لدى ويتمان وهي التكرار؛ تكرار تركيبة لغوية معينـــة في البيت الشعري، أو بناء المقطــع على تركيبـــة متكررة من سطر إلى سطر، وربما تكررت في السطر الشعري الواحــد ثلاث مرات على نحو ما ورد في قصيدة «النائمون Sleepers». وتعد ترجمة سلام هذه الوحيدة التي تمنح المتلقي العربي، وعياً بالشعر في القرن الـ19، وأيضاً لما يمثله ويتمان من مركزية في الشعرية العالمية. فحضور ويتـــمان في الوعي الثقافي الأميركي يتجاوز شعريته الحداثية، إذ إن قصائده ترسم ملامح الحلم الأميركي الرفيع في ذلك القرن؛ بالحرية والمساواة المطلقتين، والتحقق الإنساني المزدهر، والكرامة الإنسانية للجميع، داخل الولايات المتحدة، وفي ما بينها، وخارجها.
إن مشروع ويتمان الكبير وأحلامه العابرة للقارات، تحطمت على أيدي الأميركيين أنفسهم، لأنه حلم عصي، ومستحيل، فقد جاءت التطورات بنقيضه تماماً، في الداخل والخارج، إلى حد الإبادة الجماعية، ابتداءً بالهنود الحمر، مروراً بملايين خارج النطاق الجغرافي الأميركي، ووصولاً إلى اختراع سياسة الأرض المحروقة. حدث ذلك فيما كان ويتمان ينتصر في «أوراق العشب»، للإنسانية ويدعو إلى المساواة بين البشر بمختلف أعراقهم. طرح سلام في التقديم؛ رؤيته حول ترجمة النص الأدبي، وأشار إلى أنه «لا ترجمة أخيرة للشعر أو نهائية، فكل ترجمة قراءة وكل قراءة ترجمة، والنص الإبداعي حمَّال أوجه، إذ أنه يمنحك وجوهاً متعددة في آن واحد، وإذا كان الحضور الموضوعي للنص الشعري بطبيعته الفريدة، يؤسس لذلك، فإن ترجمته، من ناحية أخرى، ترتكز على السمات الذاتية الخاصة بالمترجم، لا معرفته وثقافته الخاصة باللغتين والمؤلف وتياره الإبداعي، فحسب، بل وصولاً إلى ذائقته وحساسيته اللغوية، ومدى ثراء قاموسه وقدرات خياله اللغوي». أكاد أتفق مع ما ذهب إليه رفعت سلام، إذ إن المترجم يكتب نفسه من خلال النص الذي يترجمه، بل يعتمد على أدواته الأسلوبية الخاصة، محافظاً في شكل أو آخر على روح ذلك النص.
هذا ما لاحظته في نصوص «أوراق العشب»، بترجمة سلام، وقد عرف القارئ العربي مختارات من العمل نفسه بترجمة سعدي يوسف، وماهر البطوطي. وتبقى ترجمة سلام هي الأشمل، فضلاً عن أنها تحمل ملامح أسلوبه في بناء الجملة الشعرية، وتحافظ في الوقت ذاته على روح النص في لغته الأولى.
وُلِدَ والت ويتمان WLAT WHITMAN لأسرة من الطبقــــة العاملــــة في وست هيلز؛ في لونغ آيلاند في 31 آذار (مارس) 1819 بعـــــد ثلاثين عاماً من تنصيب جورج واشنطن كــــأول رئيس للولايات المتحدة الأميركية. وكــــان ويتمان ولا يزال الشاعر الأكبر في الأدب الأميركي، وكان؛ على حد قول رفعت ســـلام، ظاهرة واسعة، فريدة، تلقي بظلالها على شعـــرية القرن العشرين الأميركية والإنكليزية، بل والعالمية، مع أنها أتت من القرن الـ19. بل ويــــعد ويتمان مؤسساً لشعـــرية، قــــادرة علـــى الصمود كذلك في القرن الـ21 باعتباره من رموز الأدب العالمي في أفق تجلياتـــه المفتوح على كل جديد، اليوم وغداً.
(الحياة)