أيمن بعلبكي… سيرتنا الماضية

محمد شرف

من بين الأفكار التي تخطر في ذهننا، وبالنظر إلى ما يحيط بنا من حوادث غير اعتيادية ذات طابع مأساوي، سؤال قد يكون بديهياً: هل تُمحى آثار الحرب؟ وإذا ما تمت إزالة الخراب المادي، كما يحصل عادة، فإلى متى قد يستمر المفعول النفسي، وهو الأكثر عناداً ورسوخاً؟ لن نبالغ، أو نحقق اكتشافاً، إن قلنا إن الحرب الأهلية اللبنانية غيّرت أشياء كثيرة في بلدنا، وسيستمر زخم مخلّفاتها العديدة الأوجه والمتفرعات إلى أمد غير معلوم. هذا، في الوقت الذي تدور فيه حرب أخرى قربنا، وتتشابه سيرتها التدميرية مع بعض مفاصل سيرتنا الماضية، علماً أن الصور الواردة إلينا من ساحات القتال هناك تشير إلى فتك ودمار قلّ مثيلهما.

الجدري
تشاء المصادفة أن يولد أيمن بعلبكي في السنة نفسها التي اشتعلت فيها الحرب الأهلية، وهو، في طبيعة الحال، لم يعش إلاّ اللحظات الأخيرة من الأزمة، حين كان في عمر المراهقة، ومذاك ترسخت في ذهنه، كما نعتقد، صور لخراب كان لا يزال قائماً. هذا المشهد، أو المشاهد لا تترك لدى كل الأفراد الانطباعات نفسها، التي يمكن أن تتراوح بين الدهشة والحزن والصدمة، وحتى المفعول الإستتيكي. يحضرنا، الآن، تصريح لصحافية أجنبية من المهتمات بالأمور الفنية، وقد غاب إسمها عن بالنا، كانت زارت بيروت في بداية التسعينيات، واعتبرت حينها أن مشاهد الدمار والجدران المصابة بـ «مرض الجدري» بفعل ما أحدثته طلقات الرصاص والقذائف فيها من ثقوب وفتحات سوداء، نقول إنها رأت جمالية معينة في تلك الأبنية المتداعية. لا شك أن في الأمر إشكالية مفهومية واعتبارات معينة قد تخرج عن نطاق المنطق الجمالي الكلاسيكي السائد. ولكن، في الأحوال كلّها، شكّلت الحرب واقعاً استثنائياً ما زالت ذيوله واضحة حتى يومنا هذا، وتحدّرت منه روايات وكتابات وأشرطة سينمائية وصور تشكيلية، كما اختفى خلالها، من ناحية أخرى، أفراد ما زال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة، وينوء أهاليهم تحت وطأة غياب غامض امتد عقوداً.
هذه المشاهد، أو بعضها على الأقل، نراها في معرض أيمن بعلبكي الحالي، المقام تحت عنوان «بلوباك» لدى غاليري صالح بركات. ليست هي المرة الأولى التي يعالج فيها الفنان موضوع الحرب، وربما لن تكون الأخيرة، في حال ارتأى أن هذه الثيمة ما زالت قابلة لمعالجات لاحقة. لكن بعلبكي، وكما لحظنا، يغوص أكثر فأكثر في تلك الذاكرة ليصنع منها عالمه الخاص وذاكرته الخاصة، وفي كل مرّة يتعرّض لتفاصيل من حوادث فاقعة جرت في أمكنة معروفة: واقعة «الهوليداي إن» التي خلّفت مبنى يكاد يكون الوحيد في المحلة الذي لم تطاوله يد الترميم، تفجير السفارة الأميركية، طائرات الميدل إيست المدمّرة في مطار بيروت بعد تعرّضه للقصف. كل ما ورد هو، في طبيعة الحال، منتج بشري صنعته يد الإنسان، الذي يغيب عن اللوحة ولا نراه كعنصر فيها، بيد أنه يحضر، ماورائياً، عبر العلاقة العضوية القائمة بينه وبين ما بناه بيديه ليصلح فندقاً أو مأوى، أو وسيلة سفر.

منظومة الخراب
حضور العنصر البشري لم يبدُ واجباً، حتى من حيث موقعه في لوحة تبدو عابقة بالتفاصيل المستندة إلى سماكة في المادة اللونية، إذ يصبح الوقع التعبيري مكتملاً من دون إضافات، في مشهدية شبه بانورامية أحياناً، لكنها، في الوقت نفسه، تركّز على الحدث وعلى أساسه المادي. فالبانوراما تتحدد بالمكان المقصود، وتحاول أن تلتقط أجزاءه الضرورية، من دون أن تُعنى بالمحيط، الذي قد لا يتوازى مع الموقع الممثل في اللوحة، من حيث مكانة هذا المحيط العادية، غير المطلوبة في الحدث الدراماتيكي الأساسي. السماء جزء ضروري في العمل، ليس فقط من حيث تمايزها اللوني، بل من حيث التناقض مع المتن، وهذا التناقض تحدده خطوط متعرّجة ومتكسرة تفصل ما بين الجزءين المختلفين. وإذا كانت السماء تتمتع بصفاء نسبي، بالرغم من مادتها اللونية الغنية بالتفاصيل، فإن المتن ينزع، عبر تفاصيله أيضاً، إلى تجسيد اصطلاحي لما تعرّض له المكان، أو الآلة، من تبدل دراماتيكي نتيجة تفجير أو قصف أو رصاص. هذه العناصر كلها تتضافر من أجل تكوين منظومة من نوع خاص لدى بعلبكي، إنها وبكل بساطة تعبيرية «منظومة الخراب»، التي هي نتيجة منطقية لكل الحروب، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المنظومة تتعدد أشكالها، ويقوى زخمها أو يضعف تبعاً لطبيعة الحدث الاستثنائي والموقعة التي بُنيت على أساسها.
استناداً إلى ما ورد ذكره، تتحدد الرؤية التشكيلية لأيمن بعلبكي، وتتكون ذاكرته الخاصة. وإذا كانت اللوحة تعيد تشكيل هذه الذاكرة، فنأمل، بينما نعيش الآن زمناً متأرجحاً بين استنفار القوة واستعمالها، أو إخماد لغتها، أن لا تتكرر تجربة الماضي، وان تبقى في حيّز الذكرى والتشكيل ليس ألاّ.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى