اختلافات الكبار

- اختلافات الكبار - 2025-07-24
- رشفة إبداع.. ضمير المثقف.. حين يُختبر - 2025-06-11
- مبادرات صيفية - 2024-06-25
لم تخلُ الساحة الثقافية العربية يوماً من النقاشات المحتدمة بين كبار مبدعيها، سواء في الشعر أو الفكر أو النقد، أو غيرهم.
غير أن ما يميز هذه الاختلافات، على اختلاف حدّتها، أنها كانت امتداداً لحيوية المشهد الثقافي، إذ لم تكن سبباً لعداوات شخصية أو قطيعة كاملة بين أصحابها، إدراكاً من جلّ المثقفين بأن الجدال بين العقول لا يعني بالضرورة افتراق القلوب، بل قد يكون دليلاً على حيوية المشهد، واحترام كل طرف لما يمثله الآخر من مشروع معرفي مستقل.
لذلك، كانت اختلافات الكبار تعبيراً عن الاختلاف في سبيل المعرفة، وهو درس لا يزال صالحاً، وربما أكثر إلحاحاً، في زمن تتآكل فيه القدرة على الاختلاف الرصين، وتتعاظم فيه لغة الإقصاء باسم الفكر والإبداع!
واللافت أن الاختلاف بين كبار المثقفين، أو بالأحرى جدالهم، على الرغم من حدته، إلا أنه كان بمثابة وقودٍ لحيوية فكرية نادرة، دون أن يكون دافعاً لقطيعة أو إقصاء متبادل.
ومن أبرز هذه الاختلافات، تلك التي دارت بين طه حسين وعباس محمود العقاد في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث اختلف الراحلان جذرياً في الرؤية والمنهج؛ فبينما كان حسين من دعاة المدرسة الكلاسيكية الفرنسية ذات النزعة العقلانية، تمسك العقاد بنزعته التجريبية الذاتية والفردية الصارمة.
ورغم هذه الهوة، ظل الاحترام المتبادل حاضراً في كتاباتهما، ولم ينزلق أي منهما إلى مستوى التهجم الشخصي أو التقليل من قيمة الآخر.
وفي المشرق العربي، شكلت العلاقة بين ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران نموذجاً دقيقاً لاختلاف الرؤى ضمن رابطة أدبية واحدة، هي «الرابطة القلمية».
ورغم صداقتهما الطويلة، لم يتردد نعيمة في نقد بعض ما رأه «نزعة غنوصية مغالية» في أعمال جبران، خاصة في نصوصه الأخيرة، ومع ذلك، ظل يصفه بأنه «أعذب الأرواح التي أعرفها».
أما في المغرب العربي، فقد نشب اختلاف فكري شهير بين المفكر محمد عابد الجابري والفيلسوف طه عبد الرحمن حول مناهج قراءة التراث، إذ اتخذ الجابري منحى عقلانياً بنيوياً، بينما سلك عبد الرحمن مساراً أخلاقياً تداولياً، يستلهم الأصول الإسلامية.
ورغم أن النقد كان أحياناً قاسياً، فإن ما يُحسب للطرفين أنهما لم يُنزلا اختلافهما إلى مستوى الشخصنة، بل ظلا ينطلقان من التزام معرفي صارم.
مثل هذه النماذج وغيرها تؤكد أن الاختلاف بين الكبار لا يقاس بعلو الصوت أو قسوة العبارات، بل بقدرتهم على تحويله إلى فرصة لمساءلة الذات، وتغذية الفكر العربي بجدل ناضج يليق بتاريخهم ومكانتهم.
ولعل هذا ما نفتقده اليوم، وهى الحاجة إلى ثقافة الاختلاف النبيل، لا الخصومة العقيمة، لتكون المعارك الفكرية للمثقفين في عالمنا العربي تعبيراً عن اتساع أفق، وإدراك عميق بأن الثقافة الحية لا تنمو إلا عبر التصادم الخلاق بين رؤى متعارضة، ما دامت لا تهوي إلى التبخيس أو الإقصاء في مختلف صوره.
** المصدر: جريدة “الشرق”