«استعادة» لكمال الجعفري ضمن «قلنديا الدوليّ»: «إشي سريالي»

سحر مندور
قضى كمال الجعفري ستة أشهرٍ في كايمبريدج، يعالج حوالي خمسين فيلماً إسرائيلياً صُوّرت بين مطلع الستينيّات وأواخر الثمانينيّات في يافا. خلال هذه الأعوام، كانت يافا التي نشأ فيها قد تجمّدت في خلفية واقعٍ إسرائيليّ استجد فوقها، وبقي ينفر منها ويحتاجها معاً: ينبذها ويحبّذ دمارها لأنها تروي قصّةً مناقضة للسرديّة الصهيونيّة عن الأرض والشعب. ويحتاجها لتصوير أفلامٍ تمنح الهوية الإسرائيليّة المستجدة عمقاً بصرياً في التاريخ، فالتصوير في تل أبيب المشيّدة حديثاً يظهّر الكولونياليّة في الصورة. وهو طفلٌ، رأى الجعفري نجم «الأكشن» الأميركيّ تشاك نُورِس يصوّر فيلم «دلتا فورس» الذي فجّروا لأجله مبنى في يافا. وهو مخرجٌ، فاق الجعفريّ «البطل» الأشقر قوّةً إذ أزاله من الفيلم واستعاد يافا.
هدف الجعفري من قضاء كلّ هذه الساعات أمام هذه الأفلام كان، أساساً، حفظ صورٍ جامدةٍ منها عن الأمكنة التي عاش فيها ولداً. ولكنه سريعاً ما انتبه إلى «وجودٍ في خلفية الأفلام، كأنها مشاهد كانت ناطرتني حتى لاقيها»، يقول في النقاش التالي للعرض، وقد أداره الفنان اللبنانيّ أكرم الزعتري في «دار النمر» ضمن فعاليات «مهرجان قلنديا الدوليّ» الثالث. محا الجعفري الخطّ الروائيّ الإسرائيليّ من الفيلم، بأبطاله وسرديته، فتجلى الفلسطينيون ويافا في الخلفية. عمليةٌ وصفها بدقّة الزعتريّ قائلاً: «أنتَ التقطتَ الوثائقيّ في الأفلام الروائيّة». فالفلسطينيون لم يكونوا ممثلين في هذه الأفلام، وإنما جزءاً من معالم مدينة التصوير.
في الافلام الإسرائيلية، يقول الجعفري إن «معظم القصص تروي قصة حبٍّ شائكة بين يهود أشكيناز ويهود آتين من بلادٍ عربية». تحبّ الشقراء البولنديّة أسمراً مغربياً نصّاباً، فيمحو الجعفري القصة، «مش لأن بدي إمحي الإسرائيليين، وإنما لأنهم واقفين قدام الصورة، زاعجيني». لا حضور لفلسطينيين في أيّ من هذه الأفلام، لا أدوار ولا ذكر لهم، لكنهم ظهروا بحكم التواجد الصامت. الصوت هو العنصر الوحيد في فيلم كمال الذي عاد ليسجّله في يافا المعاصرة. وقد سجّله ليلاً، لأن «الأمكنة بترجع لنفسها بالليل».
«واقفين قدام الصورة»
وهو يسجّله في يافا، كانت له فيه قصة آسرة مع بنت بالقرب من البحر. صارت تقترب من فريق تسجيل الصوت بتردّد، فسألها المخرج عن «من وين إنتي؟»، قالت له: «ناحال عوز». استغرب، وسألها إذا كانت من يافا أو تل أبيب، فأكّدت قولها وانسحبت. هذا هو الحوار الوحيد الحاضر في الفيلم، يقول المخرج عنه إنه «مستحيل. ناحول عوز هي مستوطنة إسرائيلية تجاور غزّة. هذا الحوار عبّر عن حالةٍ نفسيّةٍ تشبه الفيلم».
قبل معرفة ظروف تصويره، يمكن استشعار شيءٍ من الهوس في الفيلم. السرد ليس خطّياً، لا يلاحق زمناً ولا يسعى لتشكيل روايةٍ ولو متشظية، وإنما هو يأتي على شكل دوائر هوسيّة. يغادر صورةً، ويعود إليها. يقترب منها ببطءٍ، وأحياناً بإصرارٍ معلن. يُسرع في عرض صورٍ فوتوغرافية، جامدة، كرشقٍ من الوثائق أو المحطات. ثم يتباطأ في عرض مشاهد الفيديو، كمن لا يريد أن يغادرها. العلاقة الفلسطينيّة بالمكان هي مساحةٌ غنيّة جداً، وخصوصيّة جداً، لا تُقارن بالوطنيّات خارج سياق الاحتلال الاستيطانيّ. وهي علاقاتٌ تُعرّف بعدد أصحابها، لا تصبح لغةً واحدةً مهما تشابهت أو سادها خطابٌ عام.
نرى مدينةً معلّقة بين الدمار والبقاء، يظهر فيها الناس كالأشباح أولاً، يمشون ببطءٍ أو سرعة، سيدةٌ تطلّ من شبّاك، رجلٌ يستند إلى حائط، وأخرٌ بالشروال على باب دكّانه.. يحضرون كلهم «فلو»، فالصورة مغبّشة كونها الخلفية. وقد أصابها السعي الهوسي للاقتراب أكثر من الوجه، من المكان، من وجودٍ استدعاه الجعفري إلى صدر الصورة. سريعاً، يتضح أن الأشباح ليسوا أشباحاً. يتعرّف المخرج إلى خاله بينهم. وتنمو الشبكة، حتى تصبح مجتمعاً: هذه سيارة أحمد فرّاج الزرقاء، وهو ابن خالة جدّته. تُحاك الشبكة من الشخوص والأمكنة المتقطعة والمتقاطعة في «جينيريك» الفيلم، الذي اعتبره المخرجان الجعفريّ والزعتريّ فيلماً داخل الفيلم لسرده قصصاً تجلّت بعد الكشف عن وجودهم ووجوههم. وهذا أحمد ليفي، الذي غيّر اسم عائلته ليعمل في تل أبيب. ثم، «لكلّ صخرة اسم»، يقول الجينيريك، ولا شك في ذلك. وجد ذكرياته في الفيلم، ووجد يافويّون أخرون في شتاتهم «ذكرياتً أكبر مني». كأنه أعاد خلق مساحة مدينية تتلاقى فيها الذكريات وتتقاطع الحكايات من دون أن يلتقي أصحابها بالضرورة. فيلمٌ خارج الحاضر لكنه ابنه.
قفز مثل الصهيونيّة فوق التاريخ
يلاحق الجعفري يافا في الأفلام الإسرائيلية كما تُلاحَق الأدلة الجنائية. هناك مستوى إكلينيكيّ جنائيّ في بحثه. وهي ليست أدلة الوجود التي يبرزها الفلسطينيون عادةً في مواجهة الإيديولوجيا الصهيونية، وإنما هي الأدلة التي تقود إلى يافا في سنوات طمسها. تقود إلى الخاص الشخصيّ، وليس العام الخطابيّ. قد لا يتباعدان وقد لا يلتقيان، أما الجعفري فقد دخل يافا عبر أفلامٍ مؤسِّسة لمجتمع إسرائيل، بعينين كآلات المسح تبحث عن غرضها، تعرّف غرضها، وتخرج بغرضها.
أحد الأفلام التي اشتغل عليها كمال حكت قصّة دايفيد بن غوريون، ووصوله إلى يافا. «معظم الأفلام الروائية الإسرائيلية بتبدا بوصولهم عبر البحر». أنجبهم البحر في مدينةٍ مهجورةٍ تنتظرهم، بما يلائم السردية الصهيونية المؤسِّسة: تجمّد الزمن اليهوديّ في ربطها خروج اليهود من مصر هرباً من فرعون بخروج اليهود من أوروبا هرباً من هتلر، فوصولهم إلى أرض الميعاد في فلسطين. وهو قفزٌ فوق التاريخ مارسه الجعفري، عن عمدٍ أو من دونه، في سرده لوجود يافا على مرّ ثلاثة عقودٍ من عزلة المدينة. ربط أزمنتها حولها هي مثلما ربطت الصهيونية الزمن باضطهاد اليهود. الأبيض والأسود فالألوان، سيارة الثمانينيات تسبق ملابس السبعينيات… الزمن ليس المحور، وإنما المكان. رأيناه ببطء عن مسافاتٍ أقرب وتقترب، وبسردٍ لا خطّي وإنما دائريّ يجرّد الزمن من منطقه. لا يجمّد يافا، وإنما يستملك التجميد الذي تعرّضت له الحياة الفلسطينية في يافا، ويتلمّس حياتها التي كانت تجري في الخلف. أعاد انتاج يافا من اللغة التي برّرت تدميرها. يروي كمال أن بن غوريون قال في الفيلم إنه كره يافا لأنها تذكّره بمدينةٍ بولندية. يقفل الجعفري القصة بابتسامة: «عال، أنا محيته منها».
تتوالى المشاهد خارج السرد الخطّي لتثبّت الدوائر الحامية للمكان، المنقذة لتفاصيله من الاستكانة ككومبارس غير مرغوبٍ به أو بمعلوماته، في خلفية المشهد الإسرائيليّ. فيه، تقفز الأوروبية على درج بيتٍ شبه مهدّم، وتمرّ بجوار شبّاكٍ مكسور، من دون اكتراثٍ لتبرير الدمار، كأنه جزءٌ عاديّ من «ديكور» المدن القديمة. «إشي سريالي»، يقول الجعفري. وفعلاً، هذا التجاور بين الوجود والدمار في «الاستعادة» يخلّف إحساساً بالقلق. القلق من تلاقي الأضداد، الحضور والغياب، الرماديّ والألوان، العمار والركام، الشبابيك المعلّقة بين هجرٍ وحضور، الأبواب التي لا تفضي إلى مداخل.. الفيلم يذكّر بمفهوم سيغموند فرويد عن الإحساس الـ «uncanny»: القلق الناتج عن تلاصق الإلفة بالغرابة، الحياة بالجماد، الـ «كأن» مع الـ «لكن».
معرفة قصة تكوين الفيلم تمنح هذا القلق سياقاً فيهدأ. هو قلق الاستعادة، يسحب الصورة من التلاشي.
(السفير)