الأحلام السردية

ربما كانت الأحلام في (ألف ليلة وليلة) أول ما سكنني من الأحلام فيما أقرأ من السرد، في عهد الصبا. ومن بعد جاءت الأحلام في كتاب (الأيام) لمولانا طه حسين و(إبراهيم الكاتب) لمعلمي في السيرة الروائية إبراهيم عبد القادر المازني، ومن ينسى منامات الوهراني؟

مما أورثنا في الأحلام أبو محمد بن سيرين وسيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ وإريك فروم، نهلتُ.  لكن المنهل الأكبر والأول والأخير كان ولا يزال: السرديات الروائية وفي هذا الإرث الكبير تندر الروايات التي تقوم بالأحلام وحدها، وتكثر الروايات التي يكون فيها للأحلام حضور ما، أكثر أو أقل فاعلية.

كأنها نائمة

من الفئة الأولى تناديني رواية (كأنها نائمة -2007) لإلياس خوري (1948 -2024)، فأفتح ذراعيّ لميليا البيروتية التي تزوجت من الفلسطيني منصور (ابن يافا)، وبالزواج رَمَحَ الفضاء الروائي من فلسطين إلى لبنان ومن لبنان إلى فلسطين فيما قبل الزلزال الذي جاء بإسرائيل عام 1948.

بأحلام ميليا تقوم رواية (كأنها نائمة) فاشتبك الواقع بالخيال، والوعي باللاوعي، والحلم بالأسطورة، وما الأحلام إلا هذا، أما الرواية فهي من هذا ومن غيره. لذلك تحفل (كأنها نائمة) بشخصيات أخرى سوى ميليا، وهي جزء من حياة ميليا، وبالتالي من أحلامها.

في شريط الأحلام/الحياة تقصُ هذه الرواية علينا قصص أحلام في سردية محاذية وموازية للواقع، ومشتبكة معه. وللتدقيق تأتي القصص جميعًا في الرواية، في هيئة مِزَق. مِزَق من أحلام ومن وقائع وأحداث ستعيد الأحلام بناءها وسردها، وإذا بالرواية تقدم ثلاثة أجيال من أسرة ميليا، منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى 1948. أما الزمن الروائي فيقطّر تلك العقود بثلاث ليالٍ ترسم بخاصة صورًا لبيروت ويافا بين الحربين العالميتين، هي أيضًا صور من تفور الرواية بهم وبهن من حول ميليا: عائلة شلهوب وعائلة شاهين، الجدتان حسيبة وملكة، الجدّان سليم ونخلة، الخال متري والخالة سلمى، الأم سعدى والأب يوسف، الإخوة الأربعة، وعلى رأسهم نقولا الأكبر الذي يحل محل الأب بعد موته، حيث تصبح ميليا أمًا لأمها.. وبقدر اشتباك حياة ميليا بحيوات أولاء، هي مشتبكة بحياة من سحرته في واحدة من رحلاته: منصور، فدبرت الراهبة ميلانة زواجه منها: هو منصور وهي ميليا.

بأحلام ميليا تقوم رواية (كأنها نائمة) فاشتبك الواقع بالخيال، والوعي باللاوعي، والحلم بالأسطورة، وما الأحلام إلا هذا

كانت ميليا في طفولتها تتمنى أن تكون مثل الصبيان: ونشأت تخشى الكنيسة: وهذه التي حياتها أحلام وأحلامها حياة كانت تصدق أحلامها التي يعاجلها الصوت: “ما تصدقي مناماتك” فتنبض: “المنامات بتخبرني شو عم يصير”، فيصرّ الصوت صريرًا: “المنامات أوهام”.

من أعماق التراث المسيحي بخاصته، والإسلامي أيضًا، تمتح (كأنها نائمة) مثلما تمتح من التراث السردي. فالعنوان ينادي في نسبه في إنجيل متّى: “تنحّو فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة” وميليا تنادي زرقاء اليمامة في الأحلام التي تتشرّف، فالأحلام ليست فقط تلك التي “بتخبرني شو عم يصير”.

الصمت والصخب

 

إذا كانت (كأنها نائمة) أنموذجًا عربيًّا فذًّا للرواية الحلمية التي تقوم على الحلم وبه، فرواية نهاد سيريس (الصمت والصخب -2004) هي كذلك أنموذج فذ للرواية التي يكون للحلم فيها حضور فعَّال. وهذه الفعالية جاءت تتويجًا للرواية/خاتمة. والخاتمة للروايات لا تضاهي فقط الافتتاحية أو المدخل، بل أكبر أهمية مما يرى كثيرون وأنا منهم.

شخصيات المشهد الختامي لرواية سيريس هي الراوي فتحي وصديقته لمى وأمه رتيبة خانم التي تُزف إلى السيد هائل، وهو ضابط ذو نفوذ هائل. ويبدأ المشهد مذكرًا بالسردية الحلمية الشهيرة لنجيب محفوظ (رأيت فيما يرى النائم)، والتي ضمت خمس قصص، وقسمًا ضمّ سبعة عشر حلمًا.

يكتب نهاد سيريس: “في تلك الليلة رأيت فيما يرى النائم، حلمًا غريبًا”.

رأيت عناصر الأمن قد جاؤوا واصطحبونا أنا ولمى، وقادونا إلى أحد الفنادق الراقية، وحبسونا في إحدى الغرف. وفجأة تحول الجدار إلى نافذة بعرض الحائط، كنا نرى من خلالها ما كان يجري في الغرفة الأخرى دون أن يرونا.

دخلت أمي بثياب الزفاف وبيدها باقة ورد، بينما كانت تمسك باليد الأخرى ذراع السيد هائل… وكان يظهر عليهما أنهما قادمان من حفلة الزفاف.

هنا يخطئ الراوي فتحي، وإذ ينسى ما ذكر للتو أنه ولمى في غرفة يريان العريسين اللذين لا يريانهما. لكن فتحي يتابع أن العريس نظر إلى النافذة وأشار إليه لكي يرى ما سيفعله. وسيردف فتحي أن العريس اقترب من النافذة وجعل يهدده ولمى بقبضته، أما الأهم فهو ما تعري سردية الحلم من وحشية وسادية الضابط العريس الذي خرج من الغرفة وهو يبتسم، بينما تلحق الأم/العروس به ممزقة الثياب، وترجوه ليعود. وتنقفل الرواية بقول فتحي: “رأيت في الحلم أيضًا أننا صرنا، أنا ولمى نضحك حتى سقطنا على السرير”.

لا تظهر أهمية الحلم الختامي لرواية (الصمت والصخب) إلا بقراءة الرواية التي ترسم أزمنة الديكتاتورية ورأسها ورجالها، دون أن تحددَ بلدًا أو تاريخًا، وإذا بها تعري الأمس القريب أو البعيد في سورية وفي غيرها، ليس فقط في الأخطبوط المدجج الرابض على الصدور: الزعيم/الرئيس وأجهزته الأمنية والحزبية التي تملأ الدنيا صخبًا، فلا يبقى للراوي فتحي وللشعب غير الصمت.

***

من سردية الحلم في رواية (كأنها نائمة) إلى رواية (الصمت والصخب) إلى … يتجدد السؤال عن الكاتب (ة) إذ يحيا في شخصياته، فيكون لها أحلامها التي تصير أحلامه حين يشرع بكتابتها. وما أحلى وما أمرّ ما استمرأت من ذلك منذ بدأت أفكر فيه، فيما

أكتب من الرواية منذ ثلاثين أو أربعين سنة – أم أكثر؟

من الكتّاب من يضع بجواره إذ ينام ورقة/دفترًا وقلمًا، حتى إذا ساوره حلم أسرع إلى تسجيله ولو بكلمات أولى. وقد حدثني هاني الراهب عن سنّته هذه ونصحني بها. لكن النوم من لذاتي الكبرى، ولذلك لم آخذ بنصيحته، وأنا أدرك جيدًا كم خسرت في إيثار النوم على يقظة التسجيل، ليس فقط لحلم، بل ما يوفره النوم من حل لإشكالية ما فيما أكون بصدده من الكتابة.

دَرَجُ الليلدَرَجُ النهار

 

من الأحلام الروائية التي كتبتها، والتي لا تزال تعروني القشعريرة إذا ما قرأتها، لأمرٍ ما، هذا الحلم الذي جاء في الفصل الأول من رواية (دَرَجُ الليل… دَرَجُ النهار- 2005) ويتعلق بربيع لشلاش الخمسيني وزوجته حنان التي تجاوزت الأربعين، ومضى على زواجهما ما يكفي ليصير بارعًا، فتأخذ هي بالانكفاء عنه جنسيًّا، ويأحذ هو يحسّ أنه عليل، إلى أن صارت تشكو من الجحيم ومن الصقيع الذي يعيشان فانفجرت: الطلاق.

أَلِفَ ربيع لكلمة (الطلاق) وألفته سنة تلو سنة: “أنتما طليقان بلا طلاق. أنتما زوجان بلا زواج (…) كأنك ميت، وكأن جنان ميتة.

 راوية نهاد سيريس (الصمت والصخب -2004) هي كذلك أنموذج فذ للرواية التي يكون للحلم فيها حضور فعّال

هنا يقترن الطلاق بالموت فتكون لسردية الحلم فجاءتها المرعبة: إن لم يكن الطلاق فليكن الموت. يرمي ربيع جنان بالمستحيلين، وينجو بنفسه، يعيش المستحيلين بتلذذ منذ اتحدا في هيئة سيف يحزّ عقدًا في عنق. لكأن جنان على الكنبة تتفرج على التلفزيون وهو مستلق بجوارها -أين هي ابنتهما؟- بينما ينشق شاعر الشاشة هاتفًا: وسيف حَزُّه في العنق عقدُ.

 يتطلع ربيع إلى عنق جنان، ينتفض، يناشد الشاعر أن يكرر وأن يكف في آن، فيستجيب ولا يستجيب في آن. ويتطلع إلى عنق جنان، يهفو إليها، يضيق بوجده، ولكن شرط أن تموت. ستكون جنان بهيةً في موتها، شرط ألا يعذبها الموت. لا ينبغي أن تفتك بها علة مثلًا. ليكن حادث سير مثلًا. ليكن انفجار من الانفجارات التي روعت المدينة زمن العشق وزمن الزواج. وهنا نقرأ: “وأنت لا تخشى أبدًا أخيلتك المحمومة أبدًا. أخيولة الموت هي التي تخشاك وتهرب منك، وأنت تجرها إلى أحلام يقظتك ومنامك وقت تشاء. تحدق فجأة في عنق جنان. تتشهى أن تقبله وتتلمسه وتقبض عليه وتعضّه. ومن غفلة إلى غفلة من غفلاتك ما عادت عيناك تتعلقان بخصر امرأة ممن تصادف أو تعرف، بل تسرعان إلى العنق (…) عنق نحيل أو عنق مغروم أو عنق أبيض وريان أو عنق أسمر وطويل..”.

تحت وطأة هذا الحلم طويت أيامًا وليالي، بل أسابيع وشهورًا، وأنا أقشعر كلما صادفت نظرةً مني عنق زوجتي أو إحدى بناتي أو إحدى أخواتي… أما في الأسواق والأسفار أو أمام الشاشة الصغيرة (تلفزيون أو موبايل) أو أمام الشاشة الكبيرة، فقد كانت عيناي تجرآن على أن تتأملا عنقًا لامرأة أحسبها تشبه جنان، ولا تشبه امرأة أعرفها.

***

وأخيرًا برئت من لوثة هذا الحلم الروائي. غير أن حلمًا روائيًّا آخر مما كتبت لازمني أيامًا وليالي، وأسابيع وشهورًا، بعد طوفان الأقصى في السابع من ديسمبر – كانون الأول 2023.

مجاز العشق

من رواية (مجاز العشق – 1998) طلع هذا الحلم الذي كابدته شخصية محورية في الرواية، هي الفلسطينية فاتن طروف ابنة غزة. وفي الفقرة التي عنوانها (بحر) تمضي فاتن إلى قبرص. وإذ تتمايل الباخرة برفق، تغمض فاتن عينيها مدارية وحشةً مباغتة، وينبق سرير خشبي صغير هزاز في أقصى شرفة الباخرة. تتناول الأم طفلتها البكر من البحر توسّدها حضنها قليلًا، ثم تمددها برفق على حشية من القش تملأ السرير. تتخلق موجةٌ فتيةٌ يدين معروفتين تلاعبان السرير. تتبددُ وحشة فاتن وتغفو الطفلة بهناء.

يلقي الهواء العابث بشعر فاتن على وجهها فتفيق الطفلة. يتمايل البحر بالباخرة التي خلا سطحها إلا من فاتن. يرتجّ الحلم ونقرأ: “أمواج تلاطم الباخرة بشراسة: طفلة تنشب من سريرها الخشبي الصغير الهزاز وتغافل أمها وتركض إلى الشاطئ: تقف الطفلة وتلتفت إلى غزة التي تمنّى إسحاق رابين أن يبتلعها البحر.  تمد فاتن لسانها وترتمي على صدر موجة فتية: تبتلع الماء المالح لأول مرة ويُثقلها القميص: تخبط يدها صوب البحر وصوب غزة: تقذفها الأمواج التي تلاطم الباخرة بقسوة: ترتمي على صدر الرمل الأشقر البليل والأم تصرخ والأب الأعمى يقسم بالله العلي العظيم أن فاتن مجنونة”.

ليس في (مجاز العشق) من علامات الترقيم إلا النقطتان المتعامدتان (:) أملًا مني بأن تُسلم كل جملة القول/السرد بالنقطتين إلى الجملة التالية، وأحسب أن هذه (اللعبة) كانت موائمة للسردية الحلمية التي حولتها إسرائيل إلى كابوس مما تحياه كل فاتن طروف في غزة.

تاريخ العيون المطفأة:

وهذا -أخيرًا- حلم روائي حرّم عليَّ أن أرى قنفذًا حتى على الشاشة. والحلم جاء في (العين الثانية) من عيون (أي فصول) رواية (تاريخ العيون المطفأة – 2019).

عنوان هذا الفصل/العين هو (السهم والحلم). وفيه أن الشخصية المحورية مولود صادف في طفولته (كبّابة الشوك) في فسحة ترابية: هي لابدة وهو يُشهر فوقها عودًا يابسًا. وباقترابه تكورت وتدحرجت.

في زاويةٍ أخرى وفي يومٍ آخر رأى ما يشبه (الكبّابة) السوداء، لكن له أنفًا طويلًا وأذنين قصيرتين وأشواكًا سوداء أيضًا. دنا بإصبعه من عيني هذا الكائن، فإذا به يصدر صوتًا غريبًا، ويتقلص وينحني وتشرئبُ أشواكه، وتخز واحدة منها أو أكثر إصبع مولود فيصرخ ويشبّ، ويرميه القنفذ بسهمٍ أصاب جفنه العلوي وترك له علامات لا تزول.

في روايتي «درج الليل.. درج النهار» يقترن الطلاق بالموت فتكون لسردية الحلم فجاءتها المرعبة: إن لم يكن الطلاق فليكن الموت

لم يحضر القنفذ وحده في الحلم، بل حضرت حكاية القنفذة أم القنفذ التي تختفي بعد أن تلد، تحت الأرض، حيث تأتي بعرق السواحل وتخبئه في حجرها، فمن يأخذ منه رشفة يكتب له الثراء والسعد. ومولود اهتدى إلى الحجر، ورشف من العرق السحري، لذلك كُتب لهُ الثراء والسعد. ويَعد محبوبته أماني -صار الطفل طالبًا في الجامعة- بأن يسقيها من ذلك العرق حين يتزوجان، فيكتب لها ثراء وسعد لا ينفدان.

تلك سرديات حلمية وأحلام روائية تطلق السؤال الحارق: هل الرواية إلا حلم، حتى عندما تكون وثائقية أو مما يوصف بالواقعية؟

لكن ضعف البصر يداهمُ أماني بينما وباء العماء يضرب البلاد، ويباغت القنفذ مولودًا ذات ليلة، يرميه بسهم تلو سهم إلى أن ينتفض صارخًا وتطير أصابعه إلى عينيه لتنزع الأسهم. لكن الأصابع ترتد مذعورة وقد بللها دمع ليس بدمع، ودم ليس بدم.

***

تلك سرديات حلمية وأحلام روائية تطلق السؤال الحارق: هل الرواية إلا حلم، حتى عندما تكون وثائقية أو مما يوصف بالواقعية؟

** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد 68

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى