«الأسطورة» قدوة شباب العشوائيات … والنخب تبكي على أطلال رشدي أباظة

امينة خيري
هناك في مكان ما، لكن بعيداً عن دائرة الضوء ومجال البحث وموضوع الاهتمام، ملايين من الصبية والشباب الذين لا يحلمون بهجرة إلى الغرب حيث تحقيق الحلم الأميركي، ولا إلى الشرق حيث فرصة عمل في بلدان الخليج، ولا حتى إلى إيطاليا حيث قارب في عرض البحر معتمد على مقولة «يا صابت يا خابت».
هناك في هذا المكان صبية وشباب يعتقدون أن غاية المنى والأمل فرصة عمل على «توك توك» جامح أو اقتناء دراجة نارية غير مرخصة يبهر بها بنات الحي أو ألف جنيه يشتري بها بضاعة ويؤسس لنفسه «فرشة على الرصيف» يحميها بمطواة.
هناك في المكان نفسه صبية وشباب قالوا لهم في صغرهم أن «الدكر» هو من علا صوته، وخلع ملابسه في الخناقات، وهدد الجميع بالذبح أو الحرق أو القتل إن تطاولوا عليه، ولو على سبيل التهويش أو من باب التخويف.
هذا المكان ليس مكاناً بعينه، أو منطقة بذاتها، بل هي مناطق كثيرة في أحياء عديدة، وبعضها كاد يكون مدناً قائمة بذاتها، حيث تمددت العشوائية وتوغلت الفوضى في غفلة من الزمن، وظهرت أجيال جديدة شكلت مثلها العليا من صميم أحلامها الجافة، وصنعت قدوتها من ظروفها القاسية وحولها.
القدوة التي يحكي عنها الشباب في تلك المناطق هذه الأيام هي «الأسطورة» الخارجة لتوها من رمضان إلى عرض الشارع قولاً وفعلاً. إنه الممثل محمد رمضان، الذي ينعته البعض في النخبة بـ «البلاء الذي حط على مصر»، ويقارن الكبار بينه وبين رشدي أباظة من باب البكاء على الزمن الجميل الأنيق المهذب الراقي مقارنة بالواقع القبيح العشوائي المبتذل.
لكن ما تراه النخبة وسكان المناطق المتوسطة وما فوقها من ابتذال وتدن وقبح، يراه قطاع عريض من الصبية والشباب في مناطق أخرى ممتدة باعتباره «الرجل كما ينبغي أن يكون».
«الأسطورة»، اسم المسلسل الذي قام ببطولته الممثل الشاب المثير للجدل محمد رمضان، هو حديث قطاعات عريضة من شباب المناطق الشعبية والعشوائية. والحديث لا يقتصر فقط على أحداث المسلسل وحركات رمضان وبطولاته في التفوق على أعدائه بخليط من الأفلام الهندية الخيالية على «الأكشن» الأميركية على الشعبية المصرية. «دكر» (ذكر) باتت الكلـــمة الأكــثر تداولاً في هذه الأماكن بين الشباب للإشارة إلـــى البطل الاــفتراضي رمضان. ثقة بالنفس، قوة عضــــلية، قادر على إنهاء أي خناقة تندلع في المنطقة وحده ومن دون الاستعانة بمساعدات خارجية، أنيق بالمعايير العشوائية، حليق بالمقاييس الشعبية، وأسطورة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات اجتماعية ونفسية واقتصادية.
«التوك توك» المارق في أحد الشوارع الجانبية في حي شبرا الشعبي لم يجد أفضل من «الأسطورة» ليسطرها، على خلفية مركبته الثلاثية العجلات مؤرخاً إعجابه ومبجلاً قدوته. وليت الأمر توقف عند هذا الحد. نظرة سريعة إلى وجه السائق الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة على ابعد تقدير تكشف عن لحية مخططة مرسومة بدقة تبدو وكأنها رسم أو تاتو. إنها موديل «الأسطورة»، وهو الموديل الذي يتهافت شباب المناطق الشعبية على استنساخه لدى الحلاقين.
استنساخ لحية رمضان، أو ملابسه، أو طريقته في الكلام بين الصبية والشباب، ليس ظاهرة جديدة أو غريبة أو حتى مستهجنة. فمن شارب كلارك غيبل، إلى بلوفر عمرو دياب، ومنه إلى لحية السلـــطان سليمــان في «حريم السلطان» جرت العادة أن يبــهر النــجم الشاب جماهير عريضة من محبيه فيقلدونه ويستنسخون طريقته أو مشيته أو ملابسه أو أفعاله وتصرفاته، وفي الأخيرة مربط الفرس.
يقدم رمضان تعريفاً مخيفاً لمعنى الرجولة أو «الدكر»، وهو المعنى الذي لم يعد يعني الشهامة والجرأة، أو حماية الضعيف ونصرة المسكين، أو حتى استعراض القوة والبأس في مواجهة الظلم والقهر، بل بات يعني الخروج على القانون، وأخذ الحق بالذراع، والتفاخر بالرقص بالسكاكين، والتعامل مع النساء والفتيات باعتبارهن أشياء تتراوح بين ما يجب حجبه أو يقتضي استغلاله.
استغلال الفنان محمد رمضان – الذي اكتسب شهرته من تقديم أدوار تعتمد على البلطجة والخروج على القانون باعتبارهما أسلوب حياة- في القيام بإعلانات توعية للشباب من معاقرة المخدرات أتى بنتائج إيجابية. فجمهوره هو الفئة القابعة في أسفل الهرم الطبقي حيث مستويات التعليم االمتدنية والأحوال المعيشية والسكنية الصعبة. إلا أن رمضان والأدوار المعتمدة على جعل الذكورة والبطولة والرجولة هي الوجه الآخر للعنف والبلطجة، ولو كان ذلك لأهداف سامية أو أغراض خيرة ومعان طيبة. فالصورة الأولى هي الأبقى في الأذهان.
سائقو «التوك توك» المتهافتون على استنساخ لحية رمضان يتكالبون في معاركهم اليومية على استنساخ طريقته كذلك في ترويع وتهديد وتخويف الآخرين في أعماله الدرامية، حيث القوة العضلية سيدة الموقف، وما تيسر من آلات حادة وسكاكين ومطاو لها اليد العليا، والضرب والركل وتسديد اللكمات فنون قتالية.
الشباب والصبية في هذه المناطق لم يعودوا يحلمون بالهجرة شرقاً أو غرباً، فقد ضاقت أحلامهم وتقلصت الى حجم «توك توك» او بسطة في الشارع. كما أن التعليم برمته لم يعد على قائمة أولوياتهم، إما لتسربهم منه بعد تيقنهم من عدم جدواه أو لاستكمالهم طريق التعليم على رغم عدم جدواه أيضاً. حتى حاجاتهم الرئيسية ومشكلاتهم الحقيقية لم تعد تشغل بالهم كثيراً نظراً الى صعوبة الأحوال الاقتصادية منذ هبوب رياح الربيع وتدهور الأوضاع برمتها، ومن ثم تضاؤل آمال التحسين أو التعديل. يقول أحدهم رداً على الانتقادات الموجهة إلى أيقونته «الأسطورة» والتي لا تخرج عن إطار مساهمته في تشويه وتقبيح جيل بأكمله عبر زرع مبادئ البلطجة وأسس العنف وقواعد خرق القوانين، «ناس ما عندهاش دم. حتى القدوة الجدع البطل رمضان مستكثرينه فينا. حتى حلم التشبه بفنان جدع مثل محمد رمضان يريد البعض أن يفسده علينا».
فجوة عميقة بين هذه الأماكن حيث «الأسطورة» القدوة والحلم والأيقونة، وتلك الأماكن حيث «الأسطورة» أفسد الذوق وخرب الشباب ونشر البلطجة. وبين المكانين غياب البدائل المتاحة وتمدد على رغم أنف النخب لنماذج مستنسخة شكلاً وموضوعاً لـ «الأسطورة».
(السفير)