«الأعتاب» لمحمد قراطاس: خوف الإنسان ورهبة الأقدار

سارة ضاهر
لا يحتاج الناقد الأدبي المتابع للحركة الروائية العربية، الكثير من التدقيق ليدرك أنّ الحاجة الدفينة إلى السلام والشعور بالأمان هي سمة رواياتنا منذ مستهلّ هذه الألفية الثالثة. الخوف من لا شيء، ومن كلّ شيء، وانعدام الثقة بالذات وبالمجتمع، كما هي حال الحياة في رواية «الأعتاب» (]) للشاعر العُماني محمد قراطاس المكوّن من مجتمع قبلي. حياة جميلة فيها إصلاح، وفيها خير، وفيها تعايش، لكنك إذا عشت فيها من دون نسب وعرق، تكون الحياة شاقة ومهينة، وينقصها الإحساس بالوجود.
هي التجربة الروائية للكاتب، استغرق في كتابتها نحو عامين، ليخرج برواية تجسّد خصوصيّة الشاعر وترتبط بالمكان الذي ينتمي إليه «ظفار». ظفار القابعة في جنوب عُمان على ساحل العرب، مدينة بقيت على حالها زمنًا طويلاً، يمتدّ من سبعينيات القرن العشرين، حتى اليوم. مدينة باقية لا تطوّر فيها ولا تقدّم (البيوت الطينية بنوافذها الصغيرة والأزقة تتربص بالمارة لتلصق ترابها الرطب بين شقوق الأقدام) يتحدث شعبها لغات عدّة كاللغة الشحرية والجبالية والمهرية، وقد تأثر الكاتب بآداب هاتين اللغتين خلال نشأته، وهو ما أضفى على كتاباته شيئاً من الفسيفساء الغريبة والجذابة، كما يرى أحد النقاد.
تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية مستهيل، الشاب الثائر الممتلئ حتى النخاع بالاشتراكيّة وبثورة الرفاق الأحــرار، انضمّ للثورة التي انطلــقت منتصف الستينيات هارباً من مــعايرة الأطفال له، إذ كانوا يلقبون والده «جديحة بحر»، أي الشخص الذي لا أصــل له ولا نسب، فشبه والـــده بالأشياء التي تقـــذف من البحر دون معــرفة مصدرها، ثــورة تسقط فيها الأنساب ويضمحلّ التفــاخر.
قيم مفقودة
شابًا كان يؤمن بأنّ درب النضال والكفاح المسلح هو الطريق الوحيد للخروج من قيد الأديان والحكومات الاستعماريّة والرجعيّة. ثم ما لبث أن ترك الثورة وسلّم نفسه للحكومة التي قاتلها أربع سنوات، ليعود مواطنًا بسيطًا يسكن مع والدته وأخيه.
يُظلّل السرد لغزاً وغموضاً، ويتعجب القارئ من سلوك شخصٍ تخلّى بسهولة عن نضاله وتاريخه لتحرير وطنه، ليبرّر موقفه بعد ذلك بفقدانه الإيمان بعقيدة الثورة، إذ وجد أن القيم والمبادئ الإنسانيّة أصبحت مفقودة.
يصوّر لنا الكاتب في بداية روايته شخصية مستهيل، الشخصية المتناقضة المتسائلة، شخصية يائسة متذمّرة: «لماذا نحن على هذه الدنيا يا أبي؟ أين الله يا أبي؟ أراه ولا أراه يا أبي. أقتنع به ولا أجده. لماذا لا يكفي عن المظلوم حقه ولا يأخذ الظالم بظلمه؟ لماذا يموت الأطفال والشيوخ بدون ذنب؟ كل هذه الأمور تمزّق روحي». يتحوّل شبه مجنون يحاكي نفسه، إلى حين يقرّر البحث عن الإيمان الحقيقي والقوي بالذكر والصلاة والتسبيح، فيصبح من أحباب الله والمتوكلين عليه.
تبدأ رحلة مستهيل من مدينته ظفار إلى أوروبا وشرق أفريقيا، مستمدّاً مسارها من الحلم الذي يراه في النوم، كما في اليقظة، ما يمثل الخوف أو يحقّق الرغبة، فتمثل هذه التقنيات عناصر سرديّة تنتظم لتشكّل النسيج الروائي.
لحظات مشحونة
رحلة مرت في فترات زمنية قصيرة تمثلت فيها القصص والأحداث في مقطع نصي طويل، تخلّلتها لحظات مشحونة، دفعت بالأمور إلى الذروة. وكلّما تنوّعت الأحداث وامتدّت الرحلة، ازداد القارئ تشوّقاً وارتباطاً بالمكان، حيث يذكر الكاتب تفاصيله الكاملة. مثل الصحراء التي وصفها بالملكة العاقر (الملكة شديدة الكرم وشديدة الغيرة لدرجة الموت والقتل)، والبحر وموانيه (العشق العظيم والصادق والكائن الحي الذي تنبض أمواجه بالحياة والحب)، والكهوف والوديان والجبال والغابات، والمعتقلات والفنادق. لإيهام القارئ بأنّ ما يقرأه حقيقة وليس خيالًا، إذ لا شيء يثبت الموقف أو الشخص كالتفاصيل المتصلة به؛ وكلما كانت دقيقة كان القارئ أسرع إلى تصديقها، فيكون المكان إضاءة أو إشارة أو رمزًا يوجّه البطل إلى الطريق التي يسعى الوصول إليها.
أمّا مستهيل، فهو شخصية بحثت عن ذاتها وعن الإيمان داخلها فوجدته. هذا الإيمان القويّ المتمثّل بالذكر والصلاة والنفس المطمئنة الواثقة بما كتبه الله لها، فكان الله مخلصاً لها من كل العقبات التي واجهتْها، ليصبح شخصاً نورانياً يعالج ببصيرته مشاكل كل مَن يقابله.
يصل في نهاية رحلته إلى مبتغاه، وهو لقاء جدّه ومعرفة نسبه. يجتمع بعائلته فيتم الاستذان منه حاملين معهم جده، وقد وعدوه بزيارات مقبلة. ويــصل الروائي العـــماني إلى مبتغاه، في تصوير الدين الحقيقي الذي يراه في ذات الإنسان وليس في المظاهر الأخرى كلها.
(السفير)