الإبداع يورَّث.. جاسم محمد بن حربان أنموذجًا

- الإبداع يورَّث.. جاسم محمد بن حربان أنموذجًا - 2025-10-14
- ذاكرة الأيام 2 - 2025-08-26
- لماذا نقرأ… (2) - 2025-08-12
كان النقاش محتدًا بين مجموعة من زملاء المهنة حول هل الإبداع يورَّث؟! احتد النقاش ومن ثم طرح أحدهم تساؤلًا وأشار إليّ قائلًا: ما سمعنا برأيك؟ قلت الأمر نسبي.. رد قائلًا: وفسر الماء بعد الجهد بالماء!
نريد رأيًا موضوعيًّا.. وما طرحته لغز محير.. قلت: أنا في الحقيقة لم أقرأ أن ابن اسخيلوس، سوفكليس، يوربيدس.. أو أرسطو أو أفلاطون حتى سقراط قد أورثوا فلذات أكبادهم جزءًا ولو يسيرًا من إبداعاتهم.. أما عن شكسبير وجوته والمتنبي فلم يخرجوا عن القاعدة، وأما المعري فلم يتزوج حتى نستطيع أن نحدد مصير فلذات أكباده.. طبعًا هناك محاولات ولكن باءت بالفشل وخاصة في عصرنا مثل تجربة أحمد السنباطي وطلال مداح وعبد الرب إدريس.. ومرت بذات التجربة فاتن حمامة.. ولكن!
هنا صرخ أحدهم على طريقة أرشميدس.. ما يهمنا هنا مفردة لكن!
قلت: هناك بعض النماذج أضافت في إطار الإبداع إنجازًا مهمًّا.. وقبل أن أسترسل في الكلام!
قال أحدهم: مثل من؟!
قلت: لديّ نموذج مهم.. ارتوى منذ طفولته البكر من نبع فياض.. حتى تحول إلى كينونة خلق من إرثنا الإبداعي في الخليج العربي إطارًا كونيًّا وإرثيًّا لمعظم الفنون حفاظًا عليها من الاندثار؛ ذلك أن إيقاع الحياة السريع قد غلف واقعنا مع الأسف بهذا الإطار، تبدلت خريطة الأماكن وملامح البيوت، وتحولت حتى بعض الأماكن التي ارتبطت بذاكرة الأجداد والآباء إلى حكايات تروى في المجالس عندما يقول أحدهم “هل تذكر يابو فلان.. السيف، الصرخة القديمة، بيت النوخذا، أو الطواش، أو ملاعب صبانا.. إلخ”.
كان أحدهم مندفعًا.. فقال: أعطنا نموذجك؛ لأن الوضع في إطار التجارة ورجال الأعمال وحتى في بعض العواصم ممن يمارسون مهنة الطب والمحاماة والمحاسبة متكرر؛ ولكن السؤال يختلف نحن نتحدث عن الإبداع في محيطنا الخليجي.. والموضوع منصب على الإبداع.. وبخاصة في الخليج.. مثلًا من أشهر المطربين محمد زويد وعبد الله فضالة ومع ذلك فإن التجربة لم تثمر أبدًا، وباءت بالفشل.
قلت هذا رأي صائب؛ ولكن لكل قاعدة استثناء، أليس كذلك؟!
ثم أردفت قائلًا: ألم تسمع بالمثل العربي والذي يتردد كثيرًا؛ هذا الشبل من ذاك الأسد، وأن “الولد سرّ أبيه”؛ نعم كثيرًا ما يفشل الأبناء في تحقيق أحلامهم وأحلام آبائهم؛ وفي خلق إطار تكاملي كما حققه سندهم في الحياة سواء في الرياضة أو الفن حتى في الطب والمحاماة والإعلام، ولكن في مجال العقيدة لدينا العديد من التجارب في قطر.. تجربة الشيخ الدكتور إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأنصاري على سبيل المثال لا الحصر.
أحدهم مثلًا.. حاول ذات مرة أن يدفع بابنه إلى ملاعب الكرة وهو النجم الأبرز وأعني “بيليه” فكان الفشل من نصيب الابن، وحاولت في مجال الطرب الفنانة القديرة سعاد محمد. من هنا فإن القاعدة أن الإرث الأسري لا يحقق دائمًا أحلام الأسرة في أي إطار كان.. مع هذا أعود فأقول إن هناك نجاحات قد تشكل قاعدة تثير الدهشة وإن كان الأمر نسبيًّا هنا وهناك.. مثل المخرج حسن الإمام وبديع خيري وعادل إمام وغيرهم.
رد آخر مندفعًا: قدم لنا دليلًا على نجاح التجربة؛ فأنت مع الأسف تتحدث دون دليل ملموس حول نجاح تجربة، خاصة تجارب في إطار إبداعي عندنا!
قلت: هو نموذج يشكل في واقعنا المعيش حارسًا على الإرث في كافة فنون الإبداع.. أتحدث عن جاسم بن محمد حربان.. الباحث والشاعر والأديب في كل فنون الإبداع الشعبي والحارس على تاريخ الفنون في منطقة الخليج.. نعم هناك أسماء قدمت جهدها وعطاءها في بعض الفنون سواء في الكويت أو قطر أو سلطنة عمان والإمارات.
ففي قطر هناك عدد من عشاق الفنون الشعبية مثل: خالد جوهر، عبد الرحمن المناعي، فيصل التميمي، خليفة جمعان وغيرهم. ولكن في مملكة البحرين يحتل هذا الفنان الصدارة.. وهو يحمل إرث الماضي من خلال العلم والمعرفة والتجربة، هذا لا يعني أن تجارب أخرى لا تقوم بدورها الريادي مثل الأديب والشاعر مبارك عمرو العماري أو الباحث محمد جمال أو إبراهيم الدوسري.
ولكن خليجيًّا سيظل جاسم بن حربان صاحب العطاء المتميز والمتنوع لماذا؟! بدءًا بأنه القابض على جمر الإبداع في هذا الإطار أولًا ووارث هذه الفنون من أب شكل علامة بحق مضيئة في عالم الفنون والإبداع في إطاره الشعبي، وكان بحق الركن الأبرز والأساسي كرائد ومعلم وصاحب مدرسة عبر امتزاج الروح بتلك الفنون والمحافظ على هوية فنوننا الشعبية الخليجية.
لذا فإن عطاء مبدعنا جاسم يشكل حلقات متواصلة متصلة بالماضي القريب وخلق روابط عميقة في نتاجه شعرًا ونثرًا ومن أبرز أعماله:
- مفردات بحرينية في الثقافة الشعبية (ضمن كتب التراث).
حول المفردات في إطار من الأبجدية (أبي x أريد – آردي x عملة صغيرة – امبله x أي نعم – بنت النوخذه x سمكة الفسكرة خلاقين x ثياب باليه – طبق لزق x سمك موسى.. إلخ.
جولة رائعة في مفردات نستعملها بكثرة ولا يعرف الأشقاء العرب معناها.
- الدار الشعبية وغناء الفجري في المحرق:
رصد لعدد من أبرز الدور في مدينة المحرق وغوص في تلك الأهازيج والترانيم الخالدة على شفاه الرواة وعشاق الفن.
- الزواج في المجتمع البحريني:
توقفت كثيرًا أمام هذا الجهد الخرافي في رصد ما كان من فنون وأزياء وترانيم خاصة بالعرس والأغاني المؤداة من قبل الفرق النسائية وخلافه.
- من محمد إلى محمد = دار بن حربان.
رصد لرحلة والده الفنان الشعبي الأبرز والخالد في ذاكرة عشاق التراث وحفظ من الابن جاسم لمسيرة رائد في الفنون الشعبية، وما صاغه أقلام عدد من رموز الفن والفكر والثقافة عن الراحل الكبير محمد بن حربان.
- مراداة أهل المحرق.
- الزار = أعتقد أن المبدع الكبير جاسم محمد بن حربان هو أول باحث خليجي يغوص في إطار هذا اللون من الفنون.. ذلك أن خوض غمار هذا الفن من الندرة بمكان حتى إن الدور التي كانت تمارس فيها هذه الطقوس في العديد من المدن في منطقة الخليج قد اندثرت!
- تعدد كتاباته مثل موضوع غريب عن استثاراته مثل كتابه القيم حول زراعة القمح في الحنينيه.
- الدور والفرق الشعبية في البحرين، العادات والتقاليد والفنون.
- الوسيط بين الناقل والمنقول.
- التغيير وآلياته في موروثاتنا الشعبية.
- الهوماس- ديوان شعر.
- وميض- ديوان شعر.
وأخيرًا: هل في واقعنا الإبداعي من هو الأجدر في مجال الفنون المرتبطة بالناس؟ وهل هناك سوى بو محمد جاسم من يمسك بجمر الإبداع الشعبي وتلك الأهازيج والأغاني والترنيمات الخالدة؟!
نعم فنون ارتبطت بالناس البسطاء ومع سرعة إيقاع الحياة تحول البعض من تلك الفنون إلى ماضٍ بعد أن ارتمينا في حضن الحياة؛ ولكن هناك من خلق تواصلًا مع الماضي.. نعم أمثال جاسم بن حربان.. لا يمكنه الفكاك من الحياة.. نعم الماضي امتداد لحياة اليوم.. إن إيقاع الطبل والمراويس وصوت النهام وإيقاعات “الجحلة” عودة للروح لمن يعي ويدرك قيمة تلك الإيقاعات الشجية.
من هنا يمسك جاسم وعدد من عشاق الفنون بجمر المخيال التي تجسد الماضي.. نعم هناك عدد يحاول عبر خريطة المنطقة إحياء تلك الترنيمات الخالدة. في قطر هل يستطيع فيصل التميمي الانسلاخ عن الماضي؟!
وهل بمقدور إبراهيم جمعة الهروب من قدره المرتبط بشجن الإيقاع؟!
وهل يملك منصور بو صبار المهندي أو عمر بو صقر الفكاك من القيد؟! قيد استحضار الماضي.. إنهم يرتبطون بوشائج من العشق الأزلي من إرث الأجداد.
أما جاسم بن حربان فمازال يواصل دوره كواحد من أبرز علماء الفنون المرتبطة بتراثنا الإبداعي!
نعم هناك كيانات تساهم في استحضار فنون الماضي عبر احتفالية سنوية وأعني “الحي الثقافي- كتارا” عبر إحياء “فن النهمة” وكم كنت أحلم أن يتم إحياء فنون أخرى مثل “فن الصوت” عبر جيل جديد؛ خاصة أن هناك روادًا يقدمون إبداعاتهم في هذا الإطار كالفنان القدير أحمد الجميري.
إنني أضع هذا الحلم بين يد أخي الدكتور خالد إبراهيم السليطي العاشق لكل فنوننا الإبداعية.. فهل يحقق لنا هذا الحلم؟
أما الرائد والفنان جاسم محمد بن حربان فنقول له شكرًا لك؛ فعطاؤك وعشقك جزء من رحلة الحياة.. ونحن جميعًا نستمد بعضًا من إنجازاتك فلك جزيل شكرنا.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد 68