«الجُنَيد» لعبد الإله بن عرفة.. «تاج العارفين» وطائفة أهل الاستبصار

سارة ضاهر
يطرح الكاتب عبد الإله بن عرفة في رواية «الجُنَيد: ألم المعرفة» (*) قضية المعرفة، حيث لا حياة من دون معرفة. هي كالماء، كلما غرفت منه احتجت المزيد كي تروي عطشك وتنمّي عقلك وتغذيه.
«الجُنَيد» هي ابنة بيئتها ومرآة مجتمعها. وهي اصطياد للتفاصيل واللقطات المرهقة والمؤرّقة التي تسكن ذات الكاتب بعد أن تكون قد تخمّرت وأصبحت مهيّأة، لكي تُعرض دفعة واحدة كعمل متماسك رصين على أرض صلبة للقارئ، ليلتمس ويستشف منها هذا الأخير رؤيا للانتقال إلى آفاق أرحب وفضاء أجمل، لاستخلاص الدروس والعِبر منها، ولإعادة صياغة ذلك المكان/ المدينة، وإلقاء نظرة عليه، ولو من بعيد لإنارة بعض الزوايا المعتمة فيه.
تجليات الذاكرة
بغداد المتألّمة، لا سبيل إلا رؤيتها اليوم إلا من خلال الذاكرة، مكانًا وأبطالًا وأحداثا. هي الذاكرة في أرقى تجلياتها الفكرية والروحية والفنيّة والجمالية، صعب الانسلاخ منها، مثلها مثل الأب والأم والحبيبة، بمعنى أنّ المكان هو من يسكن الذات المبدعة/ القلقة في عمل روائي، وهو فضاء يحتوي كلّ عناصر الرواية الأخرى، كاللغة والسرد والأحداث والشخصيات والحبكة والزمن، ومن داخله تتم عمليات التخيل والاستذكار والحلم، وقد يكون هو الهدف الأساس من العمل الروائي إجمالاً.
إلّا أنّ هدف عبد الإله بن عرفة الروائي والشاعر والخبير الدوليّ في مجال التراث والتنوع الثقافي وحوار الحضارات، هدفه، على ما يبدو، تكريمًا للفكر العظيم الذي أرسى معالم العلم والفكر والثقافة والمعرفة القائمة على دين التوحيد «الجنيد البغدادي» الذي لقب بـ «تاج العارفين»، وإهداءً لمدينة لطالما عُرِفَت بحضاراتها وتأسيسها للعلوم والمعارف المختلفة، والتي كانت مركزاً لعلماء عظماء من بينهم «الجنيد البغدادي»، هذه المدينة هي «بغداد».
يعيدنا الراوي إلى القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، بصحبة الجنيد البغدادي وطائفة من أهل الاستبصار، إلى مدينة بغداد، مسرح الرواية، وما جاورها من مدن وقرى، فينطلق سرده من هناك، من تلك المدينة التي تعني بستان الحبيب أو بغدان حاملة معنى جنة السلام كما سمّاها الخليفة المنصور العباسي تيمّنًاً بانتشار السلام فيها. فنزور أماكنها، ونكتشف ما يخفيه كل مكان من ذكريات وأسرار، وما يتكشّف عنه من مذاهب ومعتقدات، وما تخلّفه أبوابها المغلَقَة من عوالم وثقافات وحضارات كثيرة، تشهد على عراقتها وأصالتها.
يسرد الكاتب الأحداث والقصص ليطلعنا على أهم القضايا التي حدثت في تلك الأزمنة، أبرزها متعلقة بالتاريخ الإسلامي، ومنها قضية «منحة خلق القرآن» التي فرضها الخليفة المأمون على الناس، وعاقب كل من رفض الانصياع له والانجرار وراءه، فكان من بين هؤلاء الأشخاص الإمام أحمد بن حنبل الذي أسر وتعنف ووضع خلف القضبان.
يتقطّع السّرد بين الحين والآخر ليخبر عن مراحل ولادة البطل «الجنيد البغدادي» الذي رافقت ولادته تغييرات طبيعية أوحت بقدوم طفل يختلف عن سائر الأطفال، فيتمحور السرد حول نباهته وفطنته وعلمه الذي فاق تصور كل من كان حوله. طفل فقه معنى الشكر والحمد لله وعدم عصيان أمره.
المذاهب والفقه
يستمرّ الراوي بسرد الأحداث بواقعيّة تحاكي التاريخ، حول نشأة الجنيد، ساعيًا إلى طلب العلم والمعرفة، حافظًا للقرآن الكريم، فاستوعب المذاهب ودرس أصول الفقه وتعمّق في الرسالة، فنقرأ في الرواية حوارات فصيحة، ونقاشات وتفاصيل دقيقة، تظهر جميعها إصرار الجنيد الدائم على السؤال والسعي لطلب المزيد من المعارف والعلوم عن مختلف الأديان والمذاهب، والتعمّق أكثر في فهم الشريعة.
يبتعد الراوي قليلًا عن العلم، ليدخلَنا عالم الحب الذي سيطر على قلب الجنيد، فيصف لنا غرامه بفاطمة، شاتمًا رائحة عطرها «الغالية» التي تفوح في أرجاء المكان، فيقع أسير حبّها باحثاً عنها طويلًا لحين اللقاء بها فترتدّ له روحه، ويجمعهما الرباط المقدس «الزواج».
يمتدّ الزمن وصولًا إلى زمن الأتراك، حيث بسطوا نفوذهم، وازدادت تدخلاتهم في حياة الناس الخاصّة والعامّة، وارتكبوا جرائم تقشعر لها الأبدان وتدمي القلوب من شدة قساوتها، فشهدت تلك الفترة ظهور حركات ثورية رافضة لحكمهم ولسلوكيّات كبار الجنود منهم، في جميع أنحاء البلاد. وتزامنت تلك الأحداث مع رحلة سفر الجنيد ورفاقه إلى الحج، فسرد لنا الراوي العوائق والصعوبات والمخاطر التي واجهتهم في هذه الرحلة الطويلة، ومواقفهم البطوليّة.
أشياء كثيرة أراد بن عرفة أن يقولها للقارئ وللعرب، أشياء دفعته للاستشهاد ببطل من الماضي، عرف دينه جيّدًا، عندما لم يجد بديلًا له في الحاضر.
(السفير)