‘الدولة’ دراما تلفزيونية أثارت الجدل في بريطانيا

أمير العمري

يصور مسلسل “الدولة” (4 حلقات) الذي كتبه وأخرجه بيتر كوزمنسكي، وعرضته مؤخرا القناة الرابعة البريطانية كيف ينجح تنظيم داعش في إغراء وتجنيد الشباب البريطانيين، ودفعهم إلى الالتحاق بالتنظيم، أي الانتقال من مجتمع حديث يعتمد على العلم وحرية الفكر والمؤسسات الديمقراطية ويطلق الحريات العامة، إلى مجتمع مغلق دموي، يحارب من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إقامة الخلافة المزعومة، ويعلن الحرب على باقي العالم الذي يعتبره كما يرد باللفظ العربي في المسلسل “دار الكفر”.

يتناول المسلسل أكثر من فكرة تدور حول “داعش” وآلياته وما يستند إليه عقائديا، ليصبح أول عمل درامي بريطاني يصور نمط الحياة داخل حزام ما يسمى “الدولة الإسلامية”، وقد جاء المسلسل نتيجة بحث شاق استغرق 18 شهرا، في أدق تفاصيل داعش، كما استند إلى شهادات من بعض الأعضاء السابقين في التنظيم.

 

شخصيات وحكايات

تجري أحداث المسلسل الدرامي في عام 2015، أي حينما كان داعش في أوج قوته بعد نجاحه في السيطرة على مناطق واسعة من سوريا والعراق، والمفترض أن الأحداث تدور في معظمها، في مدينة الرقة السورية التي سيطر عليها داعش.

وفي البداية نرى كيف يلتحق أربعة من الشباب البريطانيين (فتاتان وشابان) بالتنظيم الإرهابي، هناك أولا الفتاة الشابة الصغيرة الآسيوية “أوشنا” التي أقامت علاقة مع أحد مقاتلي داعش عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، فتنتها بطولاته المزعومة، وأرادت أن تخوض تجربة العيش والزواج مع هذا الشاب (أو غيره كما سيحدث)، وهي تعبر ببساطة عن فكرتها هذه عندما تسألها رفيقتها “شاكيرا” عما دفعها إلى المجيء، فتقول إنها تريد أن تكون “لبؤة وسط الأسود”، وهو تفكير يعكس توجها نزقا مراهقا.

أما “شاكيرا” فهي بريطانية ذات أصول أفريقية (سوداء) تتحدث بعض العربية إلى جانب الإنكليزية التي تنطقها بلكنة سكان أحياء لندن الشعبية، لكن الأكثر تعقيدا أنها أولا “أم منفردة” أي أنجبت ابنها “إسحق” (وهو في التاسعة من عمره) من علاقة مع رجل لم تتزوجه ومصيره غير معروف، وفي الوقت نفسه هي طبيبة مؤهلة مارست الطب في “بلاد الكفار” -كما يقول أحد أعضاء التنظيم الذين يستقبلونها مع زملائها عند وصولها إلى “الرقة”- لقد أتيحت لها فرصة العمل والترقي والصعود الطبقي في مجتمع يتمتع فيه الأطباء بوضع اجتماعي ومادي متميز.

هل هي مسلمة من الأصل أم اعتنقت الإسلام؟ هل جاءت عن قناعة أيديولوجية للمشاركة في محاربة “الكفار”؟ لا يتضح شيء من هذا، بل كل ما تعبر عنه أنها جاءت إلى الرقة بصحبة ابنها، لكي تساهم بعملها وخبرتها في بناء “الدولة”، وتظل دوافعها غامضة في المسلسل، وبالتالي يبدو وجودها غير مقنع من البداية، كما ستصبح بسرعة أكثر الشخصيات رفضا للتأقلم وقبول الوضع القائم هناك.

أما “جلال”، وهو شاب باكستاني مسلم، فيذهب إلى “الدولة” برفقة صديقه “زياد” (أقل الشخصيات وضوحا)، لكي يتتبع خطوات شقيقه الذي علم أنه استشهد في معارك كوباني، لكنه سيسمع في ما بعد روايات أخرى منها أنه كان خائنا وأعدمه التنظيم، ومنها أنه نجح في الفرار أو قتل أثناء محاولته الفرار، يظل “جلال” الشخصية التي تنعكس عليها الأحداث أكثر من غيره، وبالتالي الأقرب إلى التمرد.

 

فكرة الخداع

في البداية يتم جمع جوازات سفر الرجال في كومة كبيرة وإشعال النار فيها وحرقها، ثم يساق الجميع إلى استراحة فخمة للإقامة هناك، حيث يلهون ويضحكون ويتندرون أمام حمام للسباحة على ما يطلقون عليه “الجهاد ذو الخمسة نجوم”، بينما تتشارك النساء في إعداد الطعام، تشرف عليهن امرأة استرالية بدينة يدعونها “أم الوليد” (جيسكا غاننغ)، تتعامل معهن برقة ورفق وطيبة، ولكن بصرامة أيضا.

ويبدو تصوير المخرج لأماكن الإقامة الجماعية مشابها لفكرة “الكوميونة” التي كان يقيم فيها الشباب الأوروبيون المتمردون على المجتمع في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، الفرق أن الاختلاط بين الجنسين ممنوع، وأن الزواج شرط لإقامة علاقات جنسية، وأن التدريب والقتال جزء أساسي من العقيدة، والمرأة أداة موظفة في تسلية الرجل وخدمته ومساعدته على تفريغ طاقته الجنسية.

الشخصيات الأربع طيبة، حسنة النية، لا تحمل حقدا ولا تميل إلى العنف، وربما يكون الدافع وراء هذا الاختيار الدرامي في تجسيد ملامح الشخصيات، التعبير عن فكرة “الخداع” أي إغواء الكثير من “الأبرياء” للالتحاق بداعش تحت أوهام معينة وخداع، فالمخرج لا يميل إلى “شيطنة” الشباب البريطانيين (من أصول آسيوية وأفريقية) الذين يلتحقون بالتنظيم، بل يحاول تقريبهم إلى جمهور المشاهدين كأنماط إنسانية.

بيتر كوزمنسكي يكتفي مثلا في البداية بجعل أحد هؤلاء الشباب يهتف وهو يحمل السلاح “أحسن من العمل في مطاعم الهامبورغر”، في إشارة إلى تهميش الشباب من الأقليات العرقية، اجتماعيا، وهي ليست حقيقة مطلقة، ولعل ما يكذبها حضور الطبيبة شاكيرا، لكن شاكيرا نفسها تبدو قد خدعت عندما قيل لها عبر الإنترنت إنها ستتمكن من ممارسة عملها كطبيبة في علاج الجرحى، لكن بعد وصولها يقال لها إنها يجب أن تبقى مع غيرها من النساء في الداخل، وأنه غير مسموح للنساء بالعمل مع الرجال.

الحلقة الأولى من المسلسل تفيض بمشاعر الود والدفء عند وصول هؤلاء الوافدين الجدد إلى معقل التنظيم، ثم يبدأ تدريب الشباب على السلاح، ودفع النساء إلى العمل في المطبخ لإعداد الطعام للرجال بعد تلقينهنّ ضرورة ارتداء البرقع في حضرة الرجال فيما عدا الأزواج.

 

وتزويج النساء والفتيات مسألة أساسية هنا، وعليهنّ أن يتأهبن للامتثال لمن يطلب الزواج منهنّ، ولا مانع بالطبع من أن يتناوب على المرأة الواحدة عدة أزواج، فنحن نسمع أحدهم يقول إن الرجال هنا لا يعيشون أكثر من سنة واحدة، ومن يأتي عليه الدور للذهاب إلى ميدان القتال، لا يعود غالبا، وبالتالي ليس مستغربا أن يطلب أحدهم من شاكيرا أن تصبح زوجته بعد “استشهاد” زوجها المتوقع.

ولكن من هو زوجها؟ لقد اختارت أن تتزوج طبيبا شابا يعمل في مستشفى داعش يعترف لها بأنه شاذ جنسيا، وأنه بالتالي مهدد بالقتل إذا علم الدواعش بأمره، لذلك فزواجه منها فيه حماية له ولها أيضا، طالما أنها لا ترغب في الارتباط بالشاب الآخر الفظ الغليظ “أبوأكرم” (كريم قاسم) الذي لا يطيقه ابنها إسحق.

إسحق يندمج في أوساط الأطفال الذين يتدربون على القتل، وهو ما يصدم شاكيرا التي تريد إبعاده عن الانغماس في العنف، أما جلال فسيجد نفسه مرغما على مشاهدة مشاهد قطع رؤوس أشخاص من الأكراد والشيعة يعتبرونهم “من الكفار”، ثم يعتقلون صديقه الصيدلي السوري الطيب سيد (أمير المصري) الذي قام بتهريب زوجته إلى تركيا وأصبح يخشى الآن على حياته.

جلال يجد نفسه أيضا مضطرا -بدافع الشفقة- إلى شراء جارية له.. امرأة من الطائفة الأيزيدية هي “ابتسام” (ميساء عبدالهادي) حتى يكفل ابنتها الصغيرة، لكنه سيفقدهما فيما بعد أثناء محاولته تهريبهما خارج سوريا، حيث يتم قتلهما، ثم يساق هو، يريدون أن يرغموه على قطع رأس صديقه السوري “سيد” الذي يتهمونه بالعمالة للمخابرات الأميركية، لكن جلال لا يقدر، فيلقى بدوره مصيرا غامضا.

وتقوم الممثلة الفلسطينية هيام عباس بدور “أم سلامة” التي تتولى الإشراف على نساء داعش، ولكن حضورها في المسلسل هامشي تماما، بينما يقوم علي سليمان بدور “أبوعمر” أحد قادة داعش الدمويين، وفي أحد المشاهد، بغرض شحذ عزيمة الشباب قبيل إلحاقهم بالمعركة، يأخذهم إلى مبنى مهدم يقول إنه تعرض للقصف الجوي من جانب “الكفار”، حيث نشاهد عشرات الجثث الممزقة مع جثث لأطفال ممددة خارج الحضانات، وتلي ذلك خطبة طويلة يستشهد فيها أبوعمر بآيات من القرآن.

في المسلسل هناك الكثير من التوازن في تصوير الشخصيات، فليست كل شخصيات الرجال من العرب أو الآسيويين والأفارقة، بل هناك أيضا أوروبيون وأميركيون، بعضهم يتحفظ مثلا على بعض الممارسات، لكن دون التراجع عن “قتال الكفار”.

زياد صديق جلال لن يتردد في تنفيذ عملية انتحارية، وزوج أوشنا يلقى مصيره في جبهة القتال فيعدونها بزوج أفضل منه، وشاكيرا تهرب وتعود مع ولدها إلى بريطانيا، حيث يصبح مطلوبا منها إما التجسس على جيرانها المسلمين لحساب المخابرات، أو قضاء 8 سنوات في السجن.

 

مشكل البناء

من بين مشاكل البناء في المسلسل أنه لا يتيح مساحة زمنية كافية في البداية لتصوير الشخصيات الرئيسية في محيطها الأصلي: مع الأهل والجيران وفي سياق المجتمع، لنعرف من هي وكيف كانت تعيش وتعمل وتتحرك، ثم كيف تم تجنيدها عبر الإنترنت مثلا، وعلى أي أساس قبلت التخلي عن تاريخها والبلد الذي نشأت فيه، وأدارت له ظهرها؟

 

هناك أيضا تساؤلات أخرى كثيرة مثل: كيف يصادر الدواعش جوازات سفر الرجال ويحرقونها، بينما يتركون جوازات سفر النساء حيث تستطيع شاكيرا أن تسرق جواز سفرها وجواز سفر ابنها ثم تهرب؟

المسلسل رغم ذلك، منفذ بدقة وإحكام ويتمتع بالقدرة على الإقناع بسبب براعة التصوير وواقعية الصورة: إعادة خلق بيئة مشابهة لمعسكرات داعش وأماكن الإقامة والأسواق وغير ذلك، مع دقة في اختيار وتصميم الملابس، وتصوير مشاهد كثيرة يختلط فيها الخطاب الديني المتشدد بالخطاب القتالي وخطاب الكراهية عموما والتلويح بالحور العين، مع عدم إغفال دموية التنظيم وتلاعبه بمسألة قطع الرؤوس لتحقيق أكبر قدر من الفزع، مع الاستناد إلى الكثير من الكلمات والتعبيرات العربية المستمدة من الموروث الإسلامي نفسه وشرح معانيها كتابة على الشاشة، للجمهور الغربي، والإخراج المتقن لمشاهد القتال والاشتباكات، والموسيقى الملائمة التي تحولت في الكثير من المشاهد إلى دقات رتيبة منذرة بالخطر.

بوجه عام يمكن القول إن المسلسل لا يقوم بتجميل صورة “تنظيم الدولة”، كما زعم البعض، إنه فقط لا يتعامل مع أفراد داعش جميعا ككتلة واحدة، بل يظل ينتقل بحذر شديد بين الشخصيات المتباينة، سواء تلك التي تتماثل تماما مع واقع العنف المغطى بطلاء من الأيديولوجيا الجهادية، أو النماذج الأخرى التي تُصدم وتتشكك وتطرح التساؤلات قبل أن تصل إلى الرفض ثم الرغبة في الفرار.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى