الرواية كمذاق جديد للوطن

عبد النور  مزين

وأنت تجتاز عتبات الرواية، أقصد الرواية المنتمية إلى الأوطان في جغرافيتها المتعددة، لا بد وأن تتشرب بكل ذلك العبق الفريد المنبعث من ثناياها والقادم إليك من جسد ذلك الوطن الذي طالما انتميت إليه وكافحت متسلحا بما أُسعفت من جهد كي تتغلغل في مسامه محاولا إدراك كنهه الأعمق.

كنه ذلك الوطن الذي سنظل نسعى لتملُّكه وحفظه في شغاف القلب كفعل متواصل لرسم تصور لنا وله في امتدادات لامتناهية، من جغرافيات الوطن وتضاريس الذات المتشظية التواقة لتلك الهدنة وذلك السلام على جسر التلاقي عبر تلك الجغرافيا الواحدة المتعددة.

هكذا تغدو تلك الكتابة السردية أداة أخرى لتشكل ذات الوطن الحسية.

تغدو جسرا آخر للعبور نحو تلك الهوية العصية على الإدراك كانتماء مشتهى وككينونة شخصية شقية على طريق تخصيب وتعهد أبعاد الذاكرة، تتراءى لنا تماما كذلك الجدول العابر لربوع الأوطان عبر كل تلك الصخور والوهاد والتلال والسهول.

فالرواية بهذا المعنى، كالجدول تماما، هو فعل في جغرافيتنا يغيرنا باستمرار ويكتبنا من جديد عبر كل خرير، من سطر لسطر ومن شلال لشلال.

لذلك كان للرواية والكتابة السردية عموما تلك القدرة على التضوع وتشكيل حواسنا باستمرار من أجل إدراك جديد متواصل لذاك الكبير، المحيط بنا والممتد فينا إلى عمق عمقنا، ذلك الوطن وتلك الأوطان.

هكذا تكون الكتابة الروائية كتلك الرحلات المتعددة في جغرافيات الوطن المتعددة، محاولات دائمة للحكي عن طرق لفهم المتشظي المنثور في مسام الذاكرة لعنا ننفض غبارا ما عن سبيل مهمل في ذلك الاقتفاء الدائم لأثر عبق أو عطر جديد لشكل الوطن الموغل في الذات.

تأتي الكتابة في النهاية حصيلة لتلك الرحلات في امتدادات كل تضاريسها الموغلة في إعادة ترتيب الذات كلما ازددنا إيغالا فيها وإمعانا في سبر أغوار وهادها.

الكتابة الروائية بهذا المعنى تكون ولا محالة جدولا من تلك الجداول المتعددة التي تروي وتتعهد حدائق الذاكرة في احتمالاتها الممكنة وتفرعاتها الأكيدة على ذاكرة الأجيال القادمة، وهي بذلك تصير أداة مهمة من أدوات بناء أبعاد الأوطان الحسية والجمالية في امتداداتها لذواتنا.

تبحث في التاريخ وتقرأ في الذي يبدو كاملا منتهيا كي تلقي ضوءً على عتمة ما في الدهاليز الغابرة وتخلخل يقينا ظل ربما لأمد طويل يحاصر برعم الشك الذي يزهر في العقل حقيقة أخرى إلى حين.

هكذا تكون الكتابة قد أماطت اللثام عن حقول وسواق في جسد الوطن بحلل جديدة نطل عليها من شرفة ذاتنا لتقترب أكثر منا لوحة الذات المرسومة من أرواحنا على امتداد تلك الحقول وتلك السواقي.

هو ذاك طعم الوطن الجديد الذي تهديه لنا الكتابة الروائية وهي تحكي لنا عبر تلك الحكايات مذاقات الوطن الأخرى التي لا يقدر على سبر أغوارها إلا فانوس اللغة والحكي في اقتراب حد التماس من تفاصيل ذواتنا المذابة في فسيفساء الأوطان. الرواية في بنائها وفي لغتها، في تفاصيل أحداثها وفي ثنايا إحالاتها ورموزها تتيح لنا بناء تلك الخرائط الجديدة المنحوتة لذواتنا كي نخوض فيها، في سراديبها وظلالها وانعكاسات ايهاماتها عن صورنا المختلفة التي تعكسها وتبنيها في كل لحظة مرايا الذاكرة، تمنحنا عند كل حدث إمكانية أخرى للتعرف في النهاية على أنفسنا.

إنها تكتبا كلما أسهبنا في صقل مراياها وتخضبنا بعبق سحرها وحقيقتنا كلما تفننا في زرع جسدها بكل الإمكانات المتاحة في التاريخ والأدب والفن والفلسفة واللغة والعلم والطبيعة والانسان لتنضح في النهاية بذلك العبق وذلك المذاق المتجدد دوما، مذاق الوطن.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى