«الزمن» في التشكيل يبرز تجليات الضوء والتكوين وجهد الفنان

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص- 

*محمد أبو عرب 

ارتبط مفهوم الزمن في النقد العربي وحتى الغربي بتجربة النص الإبداعي بمختلف تجلياته، وتجلى في نقد الأعمال الروائية، فكان واحداً من المحاور التي اشتغل عليها النقاد وراحوا يثيرون حوله تساؤلات عديدة بوصفه مركزاً لفكرة الفعل الإنساني القائم على الأرض. 

تمركز مفهوم الزمن نقدياً في النص الإبداعي حتى بات لا يمكن الحديث عن الزمن خارج هذا الإطار، فلم تشهد التجربة النقدية العربية -على أقل تقدير- دراسة للزمن في الصورة الفوتوغرافية، أو العمل النحتي، أو اللوحة التشكيلية، أو الخط العربي، أو غيرها من الفنون الثابتة. 

يعود ذلك إلى المفهوم الذي كرسه النقاد حول الزمن الجامد، إذ ظل النقد العربي يعرّف التصوير الفوتوغرافي بأنه حالة إبداعية يتجمد فيها الزمن، منطلقين بذلك من المفاهيم المقابلة للفعل البصري المتحرك القائم في المسرح والسينما، وغيرها، متناسين أن كل تلك الأجناس الإبداعية ليست سوى آلاف من الصور الثابتة التي تتلاحق ،لتشكل المشهد الذي يبدو متحركاً لدى تلقيه. 

 

إذاً هل يمكن الحديث عن الزمن في التشكيل، والصورة، وغيرها من أشكال الفعل البصري الثابت؟، وإن كان يمكن الحديث فما هي تجليات الزمن في كل ذلك؟، وكيف يمكن للتشكيليين معالجة الزمن لونياً أو تكوينياً؟. 

للإجابة عن تلك الأسئلة ينبغي العودة إلى عينات متفاوتة، ومتنوعة من أبرز المصورين والتشكيليين الذين عرفتهم الساحة الإبداعية العالمية والعربية، فالزمن مفهوم مخاتل لا يمكن له التمظهر أو الحضور إلا بسواه، ولا يمكن لسواه الحضور إلا عبره، لذلك يجد العائد إلى سيرة اللوحة والصورة عربياً وعالمياً أن الزمن حاضرٌ فيها، بتمظهرات عديدة تتوزع على أكثر من مستوى. 

المستوى الأول يظهر في صورة الوقت الحاضرة في تقلبات الليل والنهار، كما تكشف أعمال الكثير من الفنانين الذين انشغلوا بالطبيعة ورسموها في أوقات مختلفة من اليوم ليتلمسوا جماليات التحوّل اللوني الذي يتوالد بجمالية عالية مع كل ساعة تمضي على الشكل المرسوم.

والمستوى الثاني ينكشف في تكوينات الأعمال المرسوم والعلاقات القائمة بينها وبين المراحل التاريخية التي تعود إليها كما هي حال المصورين الذين انشغلوا بالبورتريهات فصارت الملابس دليلاً مكثفاً على الزمن، وصارت قصات الشعر، والفضاء المكاني، وحتى تقنيات التصوير تجليا واضحا لمفهوم الزمن في الصورة. 

أما المستوى الثالث فهو توقيع الفنان الذي يعد مكوناً رئيسياً في بناء العمل الفني، ولا تحمل اللوحة هوية من دون توقيع الفنان وتاريخ إنجازها، فتنكشف أهمية ذلك في أعمال الجرافيك، التي تستند إلى سلسلة من الطبعات، تؤشر كل منها إلى تاريخ وجمالية كل طبعة.

أما المستوى الأخير، فهو الخامات والتقنيات التي أنتج منها العمل الفني، فمنذ كان الفنان الأول يستخدم دماء الحيوانات ليرسم على جدران الكهوف، حتى تعرف بمادة الفحم والكلس، وصولاً إلى مختلف الألوان الزيتية والمائية، وحتى اليوم وما يمكن توصيفه ب«الألوان الرقمية»، ليصبح المتلقي لذلك قادراً على إنتاج علاقة دلالية بين الخامة وسيرتها الزمنية. 

قبل كل تلك التجليات لا يمكن الحديث عن الزمن في العمل التشكيلي من دون التوقف عند المدة التي قضاها الفنان في إنجاز عمله، إذ كيف لا ينظر المتلقي إلى المدة التي قضاها الفنان الإيطالي مايكل أنجلو في رسمه لسقف كنيسة سيستينا التي تعد من أضخم أعماله الفنية، حيث انجزها ما بين العام 1508 حتى العام 1512. 

هذا العمل الفني الخارق يمكن قراءة تمظهرات الزمن فيه، على مختلف المستويات، فانجلو تم تكليفه بذلك من يوليوس نفسه، واستطاع تصوير قصة سفر التكوين في الإنجيل بدءاً من فصل الظلام عن النور (فوق المذبح) مروراً بقصة آدم وحواء منتهياً بقصة سيدنا نوح عليه السلام. وخلال الزوايا وزع عدة مشاهد تتناول العديد من القصص الدينية.

هذا على صعيد مدة العمل ومرحلة أنجازه، أما على صعيد التكوينات، فإن أي مشاهد لذلك لسقف الكنيسة سيرى حركة الأحداث المعبر عنها خلال فترات النهار، وذلك من خلال اختيار الفنان مستويات اللون، وتقلب حركة الظلال على مختلف شخوص العمل، وتكويناته، المعمارية، والنباتية، والحيوانية. 

كما يمكن الإمساك بصيغة الزمن عبر التصوّر الشكلي الذي اختاره الفنان لرسم ملحمته البصرية، إذ استند إلى الأزياء والمظاهر التي عبر عنها الفن الإغريقي طوال آلاف السنين، والتي انتقلت إلى القارة الأوروبية لتصبح المرجع الأكاديمي، والبصري لمختلف فناني عصر النهضة. 

الأمر ذاته يظهر في لوحة الفنان كارافاجيو «لاعبات الورق» إذ تجسد اللوحة أربع سيدات يرتدين أزياء عصر الباروك ويلعبن الورق على ضوء شمعة، فينكشف حضور الزمن بتجليات عديدة، أولها: وقت المساء الذي تجتمع فيه النساء والتي تشير إليه ألوان اللوحة ومستويات الضوء فيها، وحضور تكوين الشمعة كمصدر إنارة، وثانيها، الأزياء والمظاهر للنساء في العمل الفني، إذ تمثل صورة واضحة لأزياء عصر الباروك بما تشتمل عليه من زخارف وما تستند إليه من تصميم.

إماراتياً يمكن تلمس ذلك في مختلف التجارب الفنية، الرائدة، والمعاصرة، فأي عمل للفنان عبد القادر الريس يكشف صورة الزمن في العمل البصري الثابت، سواء عبر الاشتغال على التراث المعماري للإمارات، أو عبر صورة النهار، والليل في أعماله، أو حتى مدة إنجازه للعمل، ففي واحد من أعماله يرسم الريس بيوتاً تراثية إماراتية تطل على البحر ويقف أمامها قاربٌ صغير، فاتحاً بذلك سلسلة من العلاقات بين اللوحة ومفهوم الزمن فيها، إذ يرجع المتلقي لدى قراءتها إلى سبعينات القرن الماضي للإمارات، وتحديداً إلى وقت العصر من تلك الفترة، حيث تكشف الظلال حركة الشمس في اليوم، وتكشف التكوينات المرحلة الزمنية التي ترصدها اللوحة.

* عن جريدة الخليج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى