السفر إلى لبنان.. وتقييم المخاطر

- السفر إلى لبنان.. وتقييم المخاطر - 2024-09-01
عندما علمت الصديقة الفنانة التشكيلية هدى الساعي بتواجدي في بيروت، عبر تواصلنا بالواتس أب، أرسلت لي الرسالة التالية: «والله أنك شجاع، لأنك رحت لبيروت مع كل هذه التحذيرات!».
فأجبتها: «والله مو شجاع يا هدى، إنما تقييمي للخطر مختلف».
ولا بد أن أشير إلى أن هدى، التي تزين إحدى لوحاتها منزلنا في الكويت، ليست بغريبة عن بيروت، فهي عاشت ودرست وتخرجت في الجامعة الأمريكية في بيروت، خلال الفترة 1970 ــ 1975. وللعلم فإن الحرب الأهلية في لبنان اندلعت في 13 نيسان (أبريل) 1975. وفي إبريل 1973 شهدت بيروت قتالاً لفترة قصيرة نسبياً، أسفر عن قناعة المعسكر المسيحي اليميني بأن عليه أن يتولى بنفسه عملية إخراج الفدائيين الفلسطينيين من لبنان. وقد كانت «قناعة» مع سوء تقدير أدى إلى جر لبنان إلى حرب أهلية استمرت من 13 نيسان (أبريل) 1975 إلى اتفاق الطائف في تشرين الأول (أكتوبر) 1989. لذا فإن هناك اختلافاً في تقدير المخاطر، حتى وإن تشابهت التجارب.
ولابد من الإقرار بأن السفر إلى لبنان وقضاء فترة طويلة نسبياً فيه أكثر خطورة من السفر والإقامة في مصر أو بلد أوروبي مثلاً. لكن هناك تفاوتاً في المخاطر في الإقامة في لبنان نفسه. فإن تسافر وتقيم في قرية أو مدينة محاذية للحدود الإسرائيلية أو الضاحية أكثر خطراً من السفر والإقامة في «رأس بيروت»، كما أن الإقامة في حمانا أو الشبانية أو بحمدون أقل خطراً من الإقامة في «رأس بيروت». والحقيقة أن سفر اللبنانيين، الذين يعملون في الكويت، أكثر خطراً من سفر الكويتيين، لأن أغلب أو كثيراً من اللبنانيين، الذين يعيشون في الكويت، أتوا من بلدات ومدن في جنوب لبنان، وإن زاروا لبنان، فإنهم سيذهبون إلى القرى الجميلة والهادئة في جنوب لبنان، عندما لا يكون هناك قصف إسرائيلي، لكن هذا لا يمكن تقديره متى سيحدث بدقة. لذلك فإن اللبناني، الذي يزور أهله في الجنوب هذه الأيام، يخاطر أكثر مني، كوني أقيم إما في بيروت أو الشبانية، التي تقع على ارتفاع 1100 متر، وعلى بعد 22 كم شرق بيروت، حتى إن احتمال الخطر الذي يتعرّض له المسافر الكويتي بسبب حوادث السيارات بين الشبانية وبيروت هو أكثر من احتمال الخطر، الذي يتعرّض له المسافر نفسه، الناتج عن قصف إسرائيلي على لبنان. هذا وأود أن أسترسل في الحديث عن تقييم أو حساب المخاطر التي تعتمد على نظرية الاحتمالات التي أتذكر البسيط منها.
فكل حي يعيش على هذه الأرض أو في الكون – إن كانت هناك حياة في كواكب أخرى ـ مجبول على أن يعيش حياة محفوفة بالمخاطر بعلمه أو من دون علمه. الإنسان أكثر إدراكاً للمخاطرة، وأكثر الأحياء دقة في حساب المخاطرة، وهذه من أهم أسباب تمكنه من بناء حضارة. وقد اكتشف الإنسان أو طوّر كثيراً من العلوم المبنية أساساً على المنطق الرياضي، ومن بين هذه العلوم علم المخاطر أو علم إدارة المخاطر Risk Management، وهو علم متفرع من نظرية الاحتمالات المتفرعة من الرياضيات. وكل علم نظري أو تطبيقي، مثل الهندسة والكيمياء والفيزياء والأحياء والاقتصاد والتمويل وإدارة الأعمال، وحتى العلوم الاجتماعية، توظف هذا العلم بطريقتها الخاصة، وتطلق عليه أسماء متباينة أحياناً. لكن وبشكل عام، هو مشتق من نظرية الاحتمالات، التي ولدت علم الإحصاء، وتكاتف الاثنان على نشأة أحد الأفرع، أُطلق عليه علم إدارة المخاطر.
وعلم المخاطر يعيشه الإنسان ويفكر فيه يومياً بوعي أو من دون وعي. يتوجه للعمل أو المدرسة يومياً. ومن خلال سلوكياته ووسائل قضاء وقت فراغه، ومن خلال عمله، مجبول على أن يتعرّض إلى مخاطر، وهو بوعي ومن دون وعي يقلل مخاطره إلى الحد الأدنى. لكن الحد الأدنى كذلك له تكلفة، والتكلفة ليست بالضرورة مادية. لنفترض أن الأمهات منعن أبناءهن أو بناتهن من المشاركة في نشاط رياضي، لأن أحد الأطفال من الحي الذي يقطن فيه قد تعرّض لحادث، عندما شارك في هذا النشاط، فإن لذلك المنع من المشاركة تكلفة. والتكلفة هي أن طفلهم سيفتقد المتعة من اللعب، وهي ضرورة للنشأة الصحية ولكسب الثقة بالنفس. عندما نذهب إلى الجمعية لشراء صندوق برتقال، نحاول أن نقلب فيه لتقليل احتمال وجود البرتقالات المتدنية الجودة. عندما نتفق مع مكتب تصميم هندسي، نثق بهذا المكتب أن يصمم لنا منزلاً وفقاً لمتطلباتنا الشخصية والعائلية والجمالية، وبأقل تكلفة ممكنة. لكن هناك حدود هندسية علمية يجب أن يلتزم بها المكتب. ففي تصميم هيكل البناء، هناك حساب لأنواع وكميات الحديد والكونكريت ودرجة كثافته. ومن الممكن التصميم وفقاً لمعامل يطلق عليه معامل السلامة أو Safety Factor بحد %100 أو %150 أو %200. وبشكل عام، فإن التصاميم الهندسية في الكويت لمتطلبات السلامة لكمية الحديد والكونكريت مبالغ فيها، وبزيادة عن التكلفة المثلى لتواضع الثقة بدقة التصميم، وبنوعية الكونكريت في بعض المواقع. فهناك وضع أو حساب أمثل Optimum يحقق السلامة ويتجنب الهدر في التكلفة.
السفر بالسيارة أو بالطائرة ضرورة، وأغلب الناس يعتقدون أن السفر بالطائرة أكثر خطراً من السفر بالسيارة، لكن بالحسابات الرياضية، وبالذات من الإحصاءات المستمدة من نظرية الاحتمالات، فإن السفر بالطائرة أكثر أمناً من السفر بالسيارة. ويذكر موقع https://medium.com، بتاريخ 17 يونيو 2024، أن سنة 2023 كانت أكثر سنة آمنة في تاريخ الطيران. فمن بين كل 1.26 مليون رحلة طيران، كان هناك حادث واحد. وأن معدل الوفيات بسبب حادث طائرة متدنٍّ، لدرجة أن الإنسان لكي يموت، عليه أن يطير كل يوم لمدة 203239 سنة.
والبشر يختلفون في ما بينهم نحو المخاطرة، أو بأدق في تقييمهم للمخاطرة. وكوني تعديت السبعين، ولا أستطيع لعب كرة القدم، أو الإسكواش الذي اضطرني العمر والديسك إلى تركه، كما أني لا أستمتع في التردد على الأندية الصحية، أصبح السفر من أهم المجالات التي أجد فيها متعتي، ولم يبقَ لي من الأنشطة الرياضية، التي أستطيع أن أمارسها، إلا المشي. وفي لبنان أستمتع بالمشي ليس في المناطق الجبلية فقط، وإنما ولبضعة أيام أستمتع بالمشي حتى في منطقة الحمرا و«رأس بيروت» المزدحمة ذات الكثافة السكانية العالية، والتي عشت فيها ثلاث سنوات، وأعرف شوارع بأسمائها في «رأس بيروت»، لا تعرفها الأغلبية العظمى من سكان بيروت نفسها. فكم منهم يعرف شارع غاندي، الذي ستصل إليه عندما تمشي على شارع الحمرا متجهاً إلى الروشة، وعندما تصل الى فندق بلازا، ثم تنعطف يميناً لتكون على شارع غاندي، الذي تقع عليه مكتبة بيسان، والذي يأخذك هذا إلى شارع بلس، حيث الجامعة الأمريكية، قاطعاً شارعي المقدسي والصيداني؟ وكم من سكان «رأس بيروت» يعرف شارع البصرة، الذي يقع عليه «مركز دراسات الوحدة العربية»، وفندق ميفلَوَر Mayflower؟
وفي زيارتي هذه اكتشفت أن الشارع، الذي يربط منطقة فندق بريستول نزولاً إلى شارع الحمرا اسمه شارع روزفلت. كنت قد مشيت عليه عشرات المرات، لكني لم أكن أعرف اسمه! ومعظم الناس لا يعرفون أسماء الشوارع في بيروت. ومن السهل جداً في بيروت ألا تعرف أسماء الشوارع، فنادراً ما تجد إعلاناً أو لوحة صغيرة باسم الشارع، وإن وجدت، ستجد أن هناك رقماً للشارع من دون اسم، وتكون محظوظاً جداً إذا وجدت اسمه في زاوية أخرى. وبيروت من أصعب المدن في التعرّف على شوارعها، لأنها تطورت من خلال فوضى عمرانية أكثر من أن يكون من خلال تخطيط عمراني. فإذا اعتبرنا مدينة مثل واشنطن دي سي من أسهل المدن للتعرّف على شوارعها، فإن بيروت هي من أصعب المدن.
هذا ووجدت أن المنطقة، التي أعرفها جيداً في بيروت، لا تتعدى مساحتها 24 كيلومتراً مربعاً، وهي «رأس بيروت» والروشة والرملة البيضة وفردان وسوليدير أو ساحة الشهداء. والحقيقة اني أشعر بغربة في مناطق في بيروت، مثل الأشرفية والمصيطبة والشياح. وميزة «رأس بيروت» أنها ليست لديها هوية طائفية. أما هذه المناطق الثلاث الأخيرة، التي أشعر بغربة فيها، فهي تعلن عن هويتها الطائفية من خلال مظاهر عديدة ومتنوعة، مثل دور العبادة ونوع الكتب والصحف التي تباع فيها، وطريقة اللبس، خاصة الزي النسائي. أما «رأس بيروت»، وبالرغم من كثافتها السكانية، فإن فيها دفئاً ورحابة، يشعر جميع اللبنانيين والعرب والأجانب بالانتماء إليها، وأزياء النساء تجمع كل الأذواق والأديان ودرجات التدين. وكم أنا سعيد أن «رأس بيروت» تفوقت على منطقة سوليدير في مركزيتها لمدينة بيروت، فسوليدير مشروع معماري جميل ورائع، لكنه ليس لكل اللبنانيين، كما هي «رأس بيروت».
فعندما أتوجّه إلى مطار الكويت متجهاً بالطائرة إلى بيروت، أجد نفسي في شوارع «رأس بيروت»، متخيلاً نفسي، عندما وصلتها للدراسة في (آب) أغسطس 1970، ساكناً في فندق بافيون على الحمرا، متعرفاً على شوارع بلس وجان دارك والسادات. ربما لهذا السبب أتقبّل مخاطرة أكثر من الغير، ولا أنقطع عن زيارة لبنان مهما زاد الخطر. فعندما أمشي على شارع السادات متوجهاً إلى نزلة أبو طالب، أنسى أني تعديت السبعين، أو بالأحرى أشعر بأن الأعمار ممكن أن تكون مجرد أرقام. وبأدق هناك عمران: عمر فسيولوجي يظهر على الملامح، وآخر نفسي يبوح بما خزّن هذا العمر الفسيولوجي من تجارب في الذاكرة. ومن يبقى طفلاً بينه وبين نفسه هو من لا يهاب كثيراً الألعاب الخطرة. والسفر إلى لبنان لعبة ممتعة، عسى الله أن يمكنني من ممارستها، وهي لعبة ليست بالخطورة التي يتخيلها البعض.
** المصدر: جريدة “القبس”