الشعر هو الأب الشرعي لسائر الفنون

حسونة المصباحي

خلال انتفاضة فبراير 1972 الطلابية، تعوّد الطلبة التونسيّون على أن يروا كل يوم فتى نحيفا، فارع الطول، بوجه طويل، وعينين تتقدان ذكاء، يتنقل بسرعة بين حلقات النقاش، ليدلي برأيه في مواضيع وقضايا مختلفة. وما كان يقوله كان يعكس ثقافة واسعة، وإلماما بالأدب والفكر الفلسفي والاجتماعي، لكن فجأة اختفى ذاك الفتى، أصيل مدينة القيروان، والمدعو البشير القهواجي، عن الأنظار من دون أن يترك أثرا. وكان على رفاقه أن ينتظروا سنوات طويلة، لكي يدركوا سبب اختفائه الفجئي.

 

الهروب إلى المسرح

يقول البشير القهواجي إنه لما التحق بالجامعة التونسية لدراسة الآداب واللغة العربية مطلع السبعينات من القرن الماضي، انجذب إلى التيّارات اليسارية، ظانا أنه سيجد عندها ما سيرضي طموحاته الفكرية والأدبية، لكن شيئا فشيئا بدأ يدرك أنه على خطأ، وأن جُلّ التيارات اليسارية تشترك في السطحية، والابتذال، والطفولية السياسية. وكل رموزها يقتصرون على قراءة الدفاتر الشيوعية الدعائية، ولا يكلفون أنفسهم التعمق في قراءة الأعمال المهمة والعظيمة، سواء كانت أدبية أم فكرية أم فلسفية أم غيرها.

كما عاين أنه لم يجد في الدروس، والمحاضرات ما يمكن أن يفيده أو ينفعه، بل لعله أحس أحيانا أنه متفوق على البعض من أساتذته في هذا الشأن أو ذاك. لذا ترك العاصمة غير آسف، ليعود إلى القيروان باحثا في الوحدة عما يمكن أن يضيء له الطريق. وفي المخبزة التي كان يعمل فيها والده، انكب البشير القهواجي على قراءة أعمال أدبية وفلسفية من مختلف العصور، فكان يسهر الليل بطوله، وينام النهار بطوله.

ومتأثرا برواية “الشياطين” التي يروي فيها دستويفسكي النهاية المأساوية لمجموعة من الاشتراكيين الراديكاليين الروس، شرع البشير القهواجي في كتابة رواية، إلاّ أنه سرعان ما تخلى عن ذلك، لينشغل بكتابة مسرحية بعنوان “المحارب البربري”.

وهو يقول “كانت رغبتي أن أكتب مسرحية على الطريقة الإغريقية من خلالها أجسد الصراع بين البربر في إفريقية (تونس اليوم) والإمبراطورية الرومانية. وأظن أني وُفّقتُ في ذلك إلى حدّ ما. وقد قام المخرج كمال العلاوي الذي أكن له تقديرا كبيرا بإخراج هذه المسرحية التي حققت لدى الجمهور نجاحا لا بأس به”.

بعد مسرحية “المحارب البربريّ”، شرع البشير القهواجي في التفكير في كتابة مسرحية تكون في مستوى طموحاته الفنية، فقد لاحظ أن المسرح التونسي يفتقر إلى النصوص الجادة، وإلى كتاب مسرحيين كما هو الحال في مصر، وفي سوريا التي شهدت فيها الكتابة المسرحية تطورا كبيرا بفضل مسرحيات سعدالله ونوس.

 

وصحيح أن هناك كاتبا مسرحيا تونسيا هو عزالدين المدني، لكنه كان يكرر نفسه، ولم يعد يأتي بأي جديد، وأما الفرق المسرحية فتعتمد على نصوص هزيلة تكتب على عجل، وتفتقر إلى الأدوات الفنية الحقيقية التي تقوم عليها الكتابة المسرحية.

وجد البشير القهواجي في الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه في أواخر السبعينات من القرن الماضي ما يمكن أن يكون موضوعا لمسرحية حملت عنوان “بيارق الله”، وموضوع هذه المسرحية مستوحى من الخليفة الشيعي الحاكم بأمر الله الذي حول الدين إلى أداة للبطش بالناس، وتعذيبهم، وإرضاخهم لمختلف وسائل القمع والاستبداد، فكان يصدر يوميا قوانين تلغي القوانين السابقة، وتكون أشد منها غلوا وتشددا.

من خلال مسرحيته المذكورة، طرح البشير القهواجي قضايا دينية وميتافيزيقية مختلفة تتصل بالأديان والإلحاد، وبالثورات التي تنحرف عن مسارها ليركب أمواجها طغاة ومستبدون جدد، وبالخير والشر. يقول البشير القهواجي إنه أراد من خلال «بيارق الله» بلوغ ما كان يطمح له الشاعر والمسرحي الفرنسي أنطونين أرتو الذي كان يدعو إلى ما يسميه بـ”مسرح الطاعون”، وهو مسرح يثير الفزع والرعب، ويحدث الرجة الكبيرة.

 

نحتاج شعرا

وخلال الثمانينات من القرن الماضي، انشغل البشير القهواجي بدراسة آثار المتصوفة المسلمين أمثال الحلاج، والسهروردي، ومحي الدين بن عربي، وابن الفارض، والنفري، وجلال الدين الرومي الذي ألف عنه كتابا أصدره “بيت الحكمة” التونسي في طبعة فاخرة، وحمل عنوان “الديوان العربي لمولانا جلال الدين الرومي”، ويتضمن النصوص والقصائد التي كتبها جلال الدين الرومي باللغة العربية.

يقول البشير القهواجي “أنا أعتبر المتصوفة المسلمين من أعظم من طرح قضايا تتصل بالميتافيزيقا، وهم يتساوون في هذا الأمر مع كبار الفلاسفة سواء من الإغريق، أو من حكماء الشرق، وخصوصا منهم الهنود والصينيون. وأرى أن العرب لم يستفيدوا إلى حد هذه الساعة من التراث الصوفي، ولم يدرسوه بعمق، ولم يولوه الاهتمام اللائق به. فمثلا لا يدرّسُ الفكر الصوفي في المدارس والجامعات، بل ثمة من يدعو إلى تكفير عظماء المتصوفة، وحرق آثارهم… وهذا أمر مؤسف للغاية”.

ويرى البشير القهواجي أن الشعر هو المصدر الأساسي لكل الفنون، بما في ذلك الرواية والسينما. وعن هذا الأمر يقول “الشعر يقودني، ويضيء لي الطريق في كل ما أكتب. والروائيون الكبار يعترفون بأهمية الشعر، بل منهم من كتبه وأبدع فيه. وكذا الأمر بالنسبة إلى كبار كتاب المسرح، والمخرجين السينمائيين. وأنا أكتب قصيدة النثر القريبة من الهايكو الياباني، ومن القصيدة الصينية القديمة. وأعتبر أن الشعر تكثيف قبل كل شيء. وقصيدة النثر تستجيب للتكثيف أكثر من القصيدة الموزنة والتقليدية. وأنا أحب الشعر القديم، وأعتبر ‘المعلقات‘ آثارا شعرية مهمة للغاية، لكنها باتت اليوم شيئا من الماضي. فالحياة التي نعيشها راهنا تحتاج إلى قصيدة النثر المكثفة واللامعة مثل البرق، وليس إلى مطولات شعرية قد لا نعثر فيها على الشعر إلاّ في ما ندر”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى