«الصدى الصامت» في بعلبك.. أنصاب الزمن الآتي

محمد شرف

في النشرة الموزّعة على مدخل «هياكل بعلبك»، يرد ان مدينة بعلبك كانت من أكثر الوجهات شعبية في العالم، وهي ذات موقع فريد ومتميّز، لكنها، وبسبب التوتر السائد في المنطقة، تكاد بقايا المعابد الشهيرة أن تكون مهجورة. كما ورد، أيضاً، أن مبادرة «الصدى الصامت» شاءت أن تتحدى الوضع الصعب والمعقّد، وأن تعيد إحياء المدينة من خلال أعمال فنيّة معاصرة تتمعن بمعظمها في بقايا بعلبك الأثرية ودورها في حياتنا اليومية. هكذا، تمّ التعاون بين جمعيات ومنظمات عدة، ومن ضمنها «الأونيسكو» و «وزارة السياحة» و «بلدية بعلبك» وحملة «متحدّون مع التراث» من أجل إقامة معرض «الصدى الصامت»، الذي ضمّ أعمالاً فنية معاصرة، وذلك داخل ممرات الهياكل وفي متحفها الذي يحتوي، أساساً، قطعاً أثرية وصوراً تاريخية ورسوماً معمارية.
افتتح المعرض عشية يوم السبت الفائت، وحضر الافتتاح جمهور حاشد تألّف من سكان المدينة، ومن عدد غير قليل ممن وفدوا من أمكنة مختلفة خصيصاً من أجل المناسبة. هذا المعرض، بما يضمّه من نتاج فني ذي صفة خاصة، يُعتبر سابقة في تاريخ المدينة، إذ لم يحدث أن شهدنا معرضاً للفن المعاصر في مدينة بعلبك، ذلك أن المعارض التي أُقيمت في الماضي كانت أقرب إلى النمط الكلاسيكي في طابعها العام، وفي حيثيات انتمائها إلى أشكال فنية لم تخرج، بهذه الدرجة أو تلك، عن الشكل الفني البسيط الذي اعتاده أهالي المدينة وربما بعض الوافدين، على تنوّع ثقافتهم الفنية وتفاوتها.
لغات منقرضة
شارك في المعرض فنانون من لبنان وفرنسا والولايات المتحدة والبوسنة. عرضت سوزان هيلر (الولايات المتحدة) شريطاً سمعياً بصرياً، في قاعة مظلمة، تحت عنوان «آخر فيلم صامت»، هو عبارة عن أرشيف سرّي، منسي وصامت للغات منقرضة، أو مهددة بالانقراض. شاشة العرض كانت فارغة وسوداء عملياً، ولا نسمع سوى كلمات من لغات لا نعرفها، وحتى بعض الأصوات التي يشير شريط الترجمة في الأسفل إلى معناها. تيو مرسييه (فرنسا) صنع مجموعة من التماثيل أراد من خلالها تبيان أن المعالم الحقيقية لعلم الآثار في بعلبك هي أشبه بنسخ شبحية عن دمية أشانتي في غانا، وفينوس ولندروف، وتمثال تلالوك، وأصنام مواي وسيكلادي. التماثيل المنتصبة ضمن محيط معتم هي، في نظره، رموز عن حضارات اختفت (كما اختفت اللغات لدى هيلر). هذه التفسيرات للشخصيات الأثرية الشهيرة تطرح تساؤلاً عن علاقتنا المستمرة بالوقت والتاريخ وإعادة إنتاج الأعمال الفنية.
باولا يعقوب (لبنان) عرضت شرائح وصوراً ضمن مشروع يهدف إلى إعادة تأليف الحفر الأثري في ساحة الشهداء بوسط بيروت، وهو ما قامت به يعقوب في العام 1995. أما البلاطات الملوّنة التي نراها في العمل فهي في الواقع طبقة مضافة تُضاف إلى تداخل الطبقات الأثرية في المنطقة التي خلّفتها 17 حضارة في كل أنحاء المنطقة، من بلاد ما بين النهرين إلى ساحل المتوسط، لتضاف إليها الطبقات الناجمة عن عواقب الحروب الأهلية والمقابر الجماعية في المنطقة. «أركان» مروان رشماوي (لبنان) المعروضة، التي قد تُعتبر نصباً تذكارية، يرسم كل منها قصّة عبر عناصر زخرفية مزروعة في الخرسانة الصلبة. الزهور والوسائد وقطع الزجاج تنصهر مع هذه الهياكل القديمة المتهالكة، مذكّرة بالحياة اليومية المجسّدة في هذا المسكن الخرافي. جمع رشماوي المواد والتحف المنزلية من مساكن مهجورة، منقّباً على غرار عالم الآثار عن البقايا التي شوّهت هندسة المدينة وغيّرتها.
الإرث الهندسي
دانيكا داكيتش (البوسنة)، التي تستخدم عادة الفيديو والفيلم والتصوير، تطرح أسئلة حول القيم والمفاهيم المتأثرة بالأطلال: الثقافة، الأرض الأم، اللغة والهويّة، التقاليد والعنف والحرب. الصور المعروضة تحت ضوء مدروس تطمح إلى إثارة الأحاسيس حول مسائل كالإقصاء والقتال والتهجير والصور النمطيّة والذاكرة الثقافية. صور الأطلال لا ترمز، بحسب داكيتش، إلى الانحطاط المادي للحضارة وإرثها الهندسي فحسب، ولكن أيضاً لانعدام المكان هي قيمة سيميائية تفقد ذاتها وتذوب لتشبه الآثار الأخرى في أماكن أخرى.
لسنا في حاجة إلى جهد كبير كي نستنتج أن الأعمال المعروضة، وعلى اختلاف طرق العرض والتقنيات المستعملة، هي من نتاج فنون ما بعد الحداثة الفنيّة. لكن الجهد المذكور كان الكثير من الحضور في حاجة إليه من أجل بلوغ البعد المفهومي للأعمال، واستيعاب مراد الفنان، من دون اطلاع أو قراءة مسبقة لأفكاره وأهدافه. صحيح أن هذه النيات ذُكرت على اللوحة الموجودة إلى جانب كل عمل، لكن قراءتها غير واردة إلاّ للمهتمين، في جو لا يسمح به حفل افتتاح يمر خلاله الجمهور مرور الكرام على ما يقع تحت ناظريه. الأعمال المعروضة تكتسب دون ريب مواصفات فنية لائقة، وتطلّبت جهداً من الصانعين قد لا يقدّره مَن لا دراية له بالتــــطور الحاصل في فــــنون ما بعد الحداثة، التي ما زالت حتى اللحظة موضــع نقاشات وجدل حتى في الأوساط الفنية.
نعود ونكرّر أن معارض من هذا النوع لم تألفها مدينة بعلبك. الخطوة جريئة من دون شك، ولا بد لنا من تقدير جهد القائمين بها، وإن كان وقعها على بعض أهالي المدينة أقرب إلى السريالية، وسنستنكف هنا عن ذكر بعض ردات الفعل، بالرغم من طرافتها، في حين أنها ردّات فعل مفهومة. وإذا كان لنا من مأخذ على الجهات المنظّمة أنه لم تتم استشارة أو إشراك فنانين من المدينة في هذا النشاط الذي استحوذ على دعاية إعلامية واهتمام رسمي أكثر من مناسب، وحــتى، في بعض جوانبه، أكبر من المناسبة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى