“الصفر واللانهاية”

الطيّار الذي يوجه قذائفه من الأعالي بعيد بعدًا لانهائيًّا عن الأرض، لأنه بعيد عن ترابها وأحجارها، غريب عنها

تطور التقنو-علم المعاصر أعفى شيطان ديكارت من أعماله المضللة، أو لنقل إنه قلّص مفعولها، فقلما يرمي طيار اليوم قذائفه بعيدًا عن مراميها

القذائف التي يرمي بها الأطفال والشيوخ، ليست قذائفه هو، وإنما جيء بها من “خارج المكان”، كما جيء به هو نفسه

عبد السلام بنعبد العالي

     ____________   عبد السلام بنعبد العالي 

هذا العنوان مأخوذ عن الصيغة الفرنسية لرواية آرثر كوستلر، التي كانت قد ظهرت بداية الأربعينيات من القرن الماضي، عقب الصيغة الإنجليزية التي حملت العنوان: “ظلام عند الظهيرة”. اقتبسنا هذا العنوان دلالة على المسافة التي تفصل المقاومين الفلسطينيين والإسرائيليين عن أهدافهم. تداول الصحافيون المصطلح العسكري “المسافة صفر” تعبيرًا عن البعد الذي يربط المقاوم الفلسطيني بأهدافه، عندما “يلتحم” بها. يمكننا، بالمقابل، أن ننعت المسافة التي تفصل الطيار الذي يرمي بقذائفه من أعالي السماء باللامتناهي.

هذا الصفر وهذا “اللامتناهي” ليسا، في حقيقة الأمر مجرد قياسين لمسافات، بقدر ما هما واقع وجودي، وموقف أخلاقي، وحالتان نفسيتان. إنهما علاقة بالأرض، أرض فلسطين، وعلاقة بالسماء.

فالطيّار الذي يوجه قذائفه من الأعالي بعيد بعدًا لانهائيًّا عن الأرض. لست أقصد فقط أنه بعيد عنها لأنه ينقلها إلى واقع افتراضي على شاشته الصغيرة، فيحولها إلى نقط تفصل بينها أبعاد هندسية، ولا لكونه بعيدًا كل البعد عن الإحساس بما يقع فيها، وإنما لأنه بعيد عن ترابها وأحجارها، غريب عنها. بل إنه بعيد كل البعد عن إدراك ما يقوم به بالفعل. فهو لا يكاد يحس أنّه يخوض غمار معارك، ويشنّ حربًا فعلية تقتل بشرًا وتهدّم مساكن، وتشتّت أسرًا، وتحرق أبرياء. ربما، لولا طبيعة الطيارة التي يركبها، واللباس الذي يرتديه، لما أحسّ هذا الطيار بأنّه جندي في معركة. وعلى أيّة حال، فهو لا يُعد “جنديًّا في معركة” بالمعنى المعهود، بل لا ينتظر منه بتاتًا في الوضع الذي هو فيه، أن يكون جنديًّا، فلا يطلب منه ما يطلب عادة من كل جندي من أن يبين عن حنكة وإقدام وصبر ودربة، وقوة وشجاعة، وأن يواجه الموت، وجهًا لوجه.

 ما يطلب منه، ليس أن يقتل ويقاتل، وإنما أن يتعامل مع شاشة ترسم له أهدافًا حَدّدَت مواقع وفق دوالّ رياضية. فلا يكون عليه أن يصيب أهدافًا “حقيقية”، أو يقتل بشرًا، أطفالًا أكانوا أم كبار سنّ، ليس عليه إلا أن “يتعامل” مع الشاشة، مثلما كان يتعامل مع مثيلتها عندما كان طفلًا يلعب على “الأرض”. فهو لا يحسّ بأيّ إحساس، وبالأحرى بالظّلم والعدوان.

 إنه “خارج” حساباتنا، نحن سكان هذه “الأرض”، بعيد عنها بعدًا لانهائيًّا. فهو “يعلو” على كل ما يروج فيها. وحتى سماؤه التي ينزل من فوقها وابل قذائفه، ليست هي السّماء التي نتوجّه نحوها نحن، سماء الإله الغفور الرّحيم، الذي “يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء”، وإنّما هي سماء إله ديكارت، أبي الفلسفة والعلم الحديثين، الإله الضامن لليقين. صحيح أن أبا الحداثة الفلسفية لم يكن يدخل مفهوم “اللانهائية” في حساباته، إلا أنه مهد لكل ما سيأتي بعده عندما جعل الأرض مجرد “امتداد”، كي يُمكّن هذا الطيار فيما بعد، من أن يسوّي كل ما فيها ويجعله، نتيجة انفجار قذائفه، “امتدادًا” مسطحًا لا تقوم فيه قائمة، ولا تنبت فيه لا “أشجار الزيتون”، ولا حتى عشب البهائم.

ليس هذا الطيار إذًا بعيدًا عن أرضنا فحسب، وإنما هو بعيد عن إحساساتنا و”أخلاقنا”. فلا يحقّ لنا، بالتالي، أن ندّعي أنّ الشيطان جرّه نحو المكروه، وقتل الأطفال، وارتكاب الكبائر. حتّى إن كان ولا بدَّ أن نذكر الشّيطان في هذا المقام، فليس ذاك الذي يدفع نحو المعاصي، وإنّما هو الشيطان الماكر الذي بإمكانه أن يضلّل ويخادع، ويبعد الطيّار عن أهدافه، فيوقعه في الخطأ.

 إنه إذًا ليس إبليس، وإنما شيطان المعرفة الذي افترض أبو الفلسفة الحديثة أنه يخادعه. وربما أمكن أن نقول اليوم، حتى هذا الشيطان المعرفي لم يعد يعمل إلا نادرًا جدًّا. فتطور التقنو-علم المعاصر أعفى شيطان ديكارت من أعماله المضللة، أو لنقل إنه قلّص مفعولها، فقلما يرمي طيار اليوم قذائفه بعيدًا عن مراميها، قلما يضيعها من غير نتيجة و”بدون فائدة”. فلا بدَّ لها من “فائدة”، لا بدَّ لها أن تصيب وتدمّر وتقتل وتحرق. لا بدَّ وأن “تنزل” نحو الأرض. لكنها ليست الأرض المعمورة التي يقطنها البشر، ليست الأرض التي يقطنها بشر لهم ذكريات وأحلام، وعلاقات حبّ وعطف وتوادد، وإنّما هي الفيزيس، أي الطّبيعة الدّيكارتية-الغاليلية التي “تتكلّم مثلثات ومربعات”، والتي هي امتداد، “أي أبعاد ومسافات ونسب. وهي بالضبط النّسب التي تمثُل على شاشة الطيارة، حيث “تسكن” الأهداف التي ينبغي “الوصول” إليها.

في مقال بعنوان لا يخلو من دلالة: “الأحجار”، كان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز قد كتب سنة 1988، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى سنة 1987، “أن الأحجار المقذوفة لهي آتية من الداخل، آتية من الشعب الفلسطيني للتأكيد بأنه في مكان من العالم، مهما كان صغره، قد انقلب الدّيْن. فما يقذفه الفلسطينيون هو أحجارهم، التي تشكل جزءًا من ذواتهم، الأحجار الحية لبلادهم”.

الأحجار الفلسطينية ليست هي ما يقذفه الطيار من الأعالي، بعيدًا عن الأرض وأحجارها. بل حتى تلك القذائف التي يرمي بها الأطفال والشيوخ، ليست قذائفه هو، وإنما جيء بها من “خارج المكان”، كما جيء به هو نفسه. نتفهم إذًا ألا يقوى على النزول إلى حيث يطلب منه أن يقترب إلى مسافة “صفر”، ليبين عن حنكة وإقدام، لأن تلك المسافة لا تستطيع أي رياضيات أو فيزياء أن تقيسها وترسمها له على الشاشة، فهي لا تقاس بالأمتار أو الأوزان، إنها لا تقاس إلا بالإيمان بالقضية، والتعلق بالأرض و”أحجارها”.

**المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 63

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى