الصور الرمزية العميقة في شعر ضحى بوترعة /بقلم عيسى ابو الراغب

الجسرة الثقافية الالكترونية
الصور الرمزية العميقة في شعر ضحى بوترعة
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمم
المتنبي قالها وليس عبثا قوله وليس فقط مفاخرة بل للأمر دلالة ابعد من هذا حيث اسقط المتنبي القيمة الشعرية العالية في قوله وهذا حال كثير من الشعراء/ القدرة على تضمين الحروف علوا لا يوصف ودهشة واسعة المعالم وبعيدة المدى .
أحببت أن يكون بداية القراءة للنص المدهش للشاعرة ضحى بوترعة الاستدلال بأشهر بيت للشاعر الكبير المتنبي فحين يمسك الشاعر ريشة الحلم ويغمسها بحبر دمه الروحي ويزرعها بحقل أيامنا وأمانينا وواقعنا يأتي حصادا باذخ الاخضرار وافر الثمار / ويعلن أننا بالكتابة والقراءة نعد ولادة جديدة وترتيبا للإنسانية العميقة في داخلنا / أو قد يكون تشكيل لصلصال الخلق الروحي لدينا / أو يكون خلقا لغزالة رشيقة تتنقل ما بين ارض وارض /
الكتابة قرصه لخاصرة الذاكرة فحينا ينوح الحزن أو يرقص الفرح / وان اسقط الشاعر دلو الذكريات أو بوح الكلمات في بئر الحياة اخرج ماءا ينبت منه نبت جميل اللون طيب الرائحة شهي الطعم / فالكتابة نهم يغذي الروح
كنت المرأة الوحيدة يحرسني المعنى في
الوجوه المليئة بنزيف الوطن
ضجيج يرتب في دواخلنا الفوضى وليس بالضجيج المعروف بل هو حالة الاتزان حين الانصهار في عمق الذات والتعبير / وإيجاد تفرد في غيمات الكلمات والصورة الشعرية الوافرة / وكأننا أمام مسرح الحياة لنداء وطن مشتهى من امراءة دخلت عوالم الشعر منذ نعومة اضفارها فأوثقت رباطه وارتقت فيه ولم تقف عند حالة واحدة منه بل انسلت من بين شقوق الحياة كوردة
لو تدبرنا كلمات الشاعرة التونسية ضحى بوترعة السابقة لوجدنا أنها تريق في دواخلها الذاتية المعنى (بمعنى أنها لا تحيى كحياة فقط بل حياتها معنى وجودي انصهاري
فها نحن نلاحظ الربط الوافر البسيط العميق مابين الأنا والوطن وكأنها تجسد منولوج توصل ألينا من خلاه فكرة وبنفس القوت نجد الإيقاع السريع للكلمات بدون أن تصدر نشازا في المعنى ولا الصورة بل لحنا رقيقا رغم نزفه / وهذه حالة الشاعرة ضحى بوترعة فلها قاموس تتفرد فيه بالكلمات والمعنى / وقد أشار الكثير من النقاد بهذا الأمر او من خلال القراءات لنصوصها الوثيرة / فهي ترسل المعنى والقصد بصوتها فيكون الإرسال عميق
قد أنسلخ من قميص أبي وأتوهج في الخطيئة
قد أركض في جدران بلا أفق
الانسلاخ للشاعر أو الإنسان هو بحد ذاته ثورة أو كسر للقيد وبقولها أتوهج في الخطيئة وكأنها تجرجر اتساع الخطايا في الكون / فالشاعرة صاحبة إرسالية ليست خفية عبر سنوات مشوارها الشعري فهي تكوين داخلي من صلصال ونار وصاحبة التجديد التأصيلي للمعاني العميقة / وبهاذ الغوص في المعنى الصوري للتركيبة الشعرية لإيصالها لأكبر قاعدة جماهيرية فهي ابنة الجماهير والأرض كما كانت تقول دوما / وهي صاحبة التجليات الشعرية وكأنها تدخل حلقة صوفية تتمايل فيها بدون ثمالة توثق حروفها وتخيطها كمطرزة تتشابك خيوط حريرها ببعض
تأخر سقوطنا في ليل بريء
ورائحة الملح تهيأ لخطى هذا الأعمى ظلالا من الوهم
كأنّه الوضوح ……
ضمنت الشاعرة هنا نداء وإعلان وإيضاح فأتت لغة البوح مربوطة مكانيا وزمنيا فقد وظفت الشاعرة في لمحة الشاعرية لها كل قدرتها في براءة السقوط
واتت بقولها (رائحة الملح) عميقة المعنى لتعبر عن رمزية فهي هنا تعطي رمزية وصفية ورمزية إيضاحية
وهنا أقول وكأن لمحات نصوص الشاعرة ضحى بوترعة موصولة النسب بحنكة وعلو الشعراء الكبار
وهنا يمكننا أيضا القول أن الشاعرة ضحى بوترعة وصلت لحد التماهي بين الشعر والربط بالمحيط واعني فيه بيئة تلك الشاعرة حيث أنها زهرة من زهرات الشعر في عائلة امتلكت لرياض الشعر عبر سنوات طوال / وهذا يتضح من خلال القراءة لها حيث أنها ليست تقليدية بل متفردة بمعناها وصورها الشعرية
وهنا تشدنا الرؤى والدلالات من خلال المساحات التي تركتها الشاعرة للمتلقين فيتجلى العمق والشمول والانسياب وحضور الدلالة اللغوية بقوة بدون أن تسقط القارئ في بئر جاف ولم تكن تحجب الرؤى الأخرى في النص الدلالي بل هي تكتب ليس للحظة بل للامتداد الدلالي في كل وقت وهذا يؤكد الرغبة القوية لدى الشاعرة في تفاعل مكونات الرسالة الشعرية المغروسة في دواخلها وإيصاله بدون توتر أو عرج
وهي ترسل رسالة أخرى لكل قارئ أو من ينبش بالحرف مخرجا سره واصل قلبه أنها تدور في دائرة النص المحوري ولكن لا تغلق ونستدل بهذا بقولها
أتشابك مع تفاصيلي المهمّلة
وأسكب الخطيئة في قدح راهب يرسم الصلاة أنثى
لم ترتب جسدها بعد
…….
قال :
هذه الأرض خطيئة اللّيل افتحي لي ظلال ما يحدث الآن ……
الشاعرة في اغلب نصوصها لها ذكر للأرض وهي رمزية عميقة لديها فهي تشتغل بحواسها وأدواتها ومكوناتها وتوظف الحس الداخلي والخارجي بكل قوة / فهي صاحبة الرمز التعبيري بقواميس تخصها /فهي على الدوام غارقة في الرمزية وتملك تميمة عشقها وبوحها وإذا مررت مرور الكرام وجدتها عصية على الفهم أو الاستنباط فيلزمك الأمر العودة للغرق في بحر الشعر لديها
وجدير بذكره أن الشاعرة دوما تحافظ على مسافة بينها وبين الحرف حتى لا تكون في يوم ما هي من تسفك دمه ولكن هي تؤمن بان تبقي له الحياة ونعني بالقول هذا ما نحياه من حياة ويظهر جليا بنصوص الشاعرة ضحى هذا
فالشاعرة تمارس الشعر كخطيئة الليل ولكن لا تسجل عليه انتصارا فكل الأمر جرح خفيف بريشة ناعمة وقطرة ماء على خد ملتهب
لاشيء يترصدني ,,,,,لاشيء يغطي جلدي غير هذا العراء
هنا الشاعرة استخدمت اللغة والمعنى والصورة بعمق كبير فهي أتت بالمغاير الغير مألوف من الإسقاط اللغوي المتضمن نصها / فقد سارت الشاعرة طريقا جديدا وصنعت بصمة لها فهي شكلت قصيدة تتضح معالمها بذاتها
أراني أتعرّى من يقيني
وأثوب الى جـــنوني ….
مدلـــــــــجة في الوهم المشتـــــــــــهي
هي المكيدة استهوتني
هي النبوءة أغوتني….
أحتسي نبيذ النزق من شفاه اللامنتهى
فها نحن هنا نجد القصيدة تصافحنا حضورا ونبكيها غيابا ، وتدخلنا معها في تحولات تكوينية على يدي الشاعرة ضحى بوترعة حتى أنها أحالت القصيدة إلى سؤال عميق
متى يمكن أن نجد المساحة الكافية للتأمل في النص
من يكمل رسم الوردة فوق قبري؟
من يكمل القصيد فوق جسدي؟
لقد حان الموعد…………
لكل شاعر في وعيه صورة ولكن الشاعرة ضحى بوترعة تمتلك صورة مركبة ندائية وجودية مسجلة في الذاكرة فهي تدخل حالة اللاوعي والوعي وتخرج منه لتفتح ابعد المساحات لرؤاها
فهي رغم وجود حالة الوعي لديها إلا أنها تعلن أنها أحيانا لا تكون بقدرة على الانسراب والانسياب في الحياة وتواجه واقعها بصراحة وتدخل في وعيها ببلاغة فهي لا تحول عينها عن الحياة بل ترسم نزقية الحياة بما يجب أن يكون ففي لحظة التصالح يظهر السؤال الذي ينشق من ذات الشاعرة بدون زيف ووصلا للحقيقة / فمتى نصنع المعجزة ونحيا في حدود الوعي الإنساني وهذا بحد ذاته انفجار للقصيدة الشعرية
ومن خلال القراءة للشاعرة بوترعة وضوح معالم العمق والخروج على السعي السالف للشعراء بل تكوين الرؤية الوجودية بما يتناسب وذاتها الشعرية حتى يتحقق الهدف المنشود / ولا تكتب بذات متعالية بل صادقة تغمرها أشياء الحياة وتستخدم الأداة الشعرية ببراعة وتقنية أدبية عالية المستوى / ولا تحسر نفسها أو تغور في جوف الأرض والكون بدون أن تخرج مفردة جديدة فهي تعتبر الكلمة الشعرية جسر العبور للقارئ وقلبه ولكل مكان / وإذا كان بعض الشعراء حافظوا على نسق معين من الإرث الشعري والمكون فهي أوجدت مكون جديد في شاعريتها ولم تبتذل الكلمات أو تداهنها