العيد بين المتنبي وخصومه

د. مريم بنت راشد الخاطر

عندما صدح المتنبي بين العرب: عيد بأية حال عدت يا عيد! كأنّه يحوم حول المستقبل ويستشرف واقع العرب الذي لم يخل يوما من معكّرات صفو الحياة، فقد جاءتنا أعياد عدّة عشناها في مشاعر متناقضة بين الفرح والشجن، بين السرور والحزن بين اللقاء والحنين..
كنّا على وشك الإحباط من عروبتنا التي تراجعت نخوتها حتّى جاءت حماس فكانت لنا عيدا على أولهم وآخرهم الفئة القليلة التي حفظت كرامة أمة وأعادت فيها روح الانتصار، فجاءت خطبة العيد من غزة لتعيد كلمة المتنبي وسط الدمار والموت ولون الدماء لا لتندب بل لترفع من معنويات الأمة العربية كما صمودهم الذي علمنا معنى كرامة أمّة وبات الخطيب مرددا في كل فقرة من خطبته في غزة وكأنه يذكر من هم في دعة ورغد أن غزة هي المنعة والجدار والعزة للأمة بأسرها: «يعود العيد وأهل غزة صامدون، يعود العيد وأهل الرباط في رباطهم مجاهدون، يعود العيد وقوم في أكناف بيت المقدس اختاروا ردع العدو والجهاد في أعظم الأيام.. ولكن الحقيقة الأبدية تختم بـ»لبيك اللهم لبيك ولا شكوى إلا إليك» ونعم بالله».
كنّا في الواقع كما في عوالم الشعر العربي، أعني في ميدان من يتبعهم الغاوون، نخشى على أنفسنا من المنهزمين حتّى أتانا المنتصرون فجاء منهم من استلهم قصيدة المتنبي وأحيا الروح من جديد من جيل مضى من عبدالرحيم محمود وغسّان كنفاني ومحمود درويش وغيره من شعراء العصر الحديث. فتذكرت قصيدة لا تقل عنهم بل تزيد فعكفت أيام العيد بحثا عنها وهي للدكتور درويش مصطفى الفار، رحمه الله، الذي كان أول مدير لمتحف قطر الوطني وهو ابن مصر العروبة مصر تلك لا هذه «مصر التي في خاطري» شاعرنا المثقف المتفوق الذي اكتشف الرمال السوداء على طول ساحل سيناء بين رفح وبورسعيد ولعل من المصادفة أن مسقط رأسه بالقرب من سيناء، إذ إنه من مواليد مدينة العريش، لذلك لا غرابة في أنّه ما فتئ يذكرنا بالنخوة والعروبة وإسلامنا وأقلها حسن الجوار..
ولكن قصيدته تلك عجز غوغل عن أرشفتها في سحبه الذكيّة فعدت إلى ملفات عتيقة يظنها البعض اليوم غبيّة كنت قد حفظتها في مكتبتي من عموده إشارات في صحيفة الراية القطرية فوجدتها تلك الورقة منذ عام 1994 وقد اصفرت وعتقت ولكن لم تبل معانيها، كان شاعرنا فيها يتخيل العيد يرد بنفسه على رائعة المتنبي عيد بأية حال عدت يا عيد! عبر الزمن فيقول وكأنه يحاكي يومنا هذا:
نعم أعود وللخام تلمود
                             وللمزامير والتوراة تجويد
‏سل الخليل وغولدشتاين يذبحها
‏                             في هدأة الفجر لا يثنيه تنديد
فالعرب غرقى ببحر الشجب قد رقدوا
                              ‏لا يرعوون وحبل اللهو ممدود
‏وأينع الهزل والتطريب وانتعشت
                             دمى الفساد وللفساق تحميد
قد صرفتنا يد الأعداء إذ وهنت
                               منّا العزائم واستشرى الرعاديد
‏وأصبح الخلف دين في مرابعنا
                              ومنفذ الصلح بالأقفال موصود
‏واحسرتاه على قومي يمزقهم
                            زيف الشعارات تحدوه الأناشيد
إن صاح فيهم عميل أرهفوا أذنا
                             وصفقوا طربا إن ساعد عربيد
وإن تسوم جبار اريكتهم
                         وسار بالظلم أمسى وهو محمود
يا كاشف الضّر يا الله ترحمنا
                            حبل الرجاء لدى الرحمن معقود
لا تأخذنا بأفعال العصاة ولا
                        تشمت من القوم منك العفو والجود
حتّى انتظرنا في عصر عرب وحكّام «صاح فيهم العميل وأرهفوا له آذانهم» انتظرنا من يعود من بين جناحينا ليعيد لنا وسط الألم والشجن العميق معاني شعريّة كاد الوضع أن يطيح بها إذ لم يكن ما نواجهه حربا بل إبادة وتطهير عرقي يندى له الجبين حتّى جاء شاعران عربيان في قطر عام 2024، هما محمد صالح وعلي المسعودي كما كان درويش الفار في قطر أيضا يوم كتب تلك – وطن التضامن الشامل مع فلسطين والقدس وغزة والعروبة والإسلام وأهله – فاستلهما ليل العيد مجددا وببراعة شعريّة قضيّة لا تموت لا في حكم الشرع ولا في عرف النخوة العربية فجاءت معارضتهم للمتنبي في ظل طوفان الأقصى على نمط الردّيات ذلك الفنّ العربي الأصيل الذي أحيا الذائقة الأدبية وأحيا فوقها معاني متأصلة فجاءت المعارضة لا لنعلن حسرتنا وننوح في يوم عيد بل لنعلن إستراتيجية الكرامة في سنّة من سنن العيد امتثالا للسنة النبوية تتمثل في ضرورة تعظيم شعائر الله التي هي من تقوى القلوب بيد أنه ليس من قبيل تعظيم الشعائر من يصفق طربا في كل عيد كل عميل وعربيد ولكن تعظيم شعائر معنى العيد ومعنى الدفاع والجهاد ضد المعتدي الغاصب إن لم يكن بالسيف فبالكلمة وإن لم يكن بالكلمة فبأضعف الإيمان.
فتأتي القصيدة بين احتفال بالعيد وبين الحزن الذي يشوبنا في ظل المجازر التي تدار على غزة والشعب الفلسطيني والتهجير القسري والقتل الجماعي في السودان فنحن باختصار بين سنتين تكريم العيد (شعائر الله) وفي استلهام النصر وكرامة أمتنا ويكون العيد عيدا لأولنا وآخرنا في الصمود الذي درسناه من غزة وفي شعر أصيل لدى المتقدمين ومن جاء بعدهم كما قال شاعرانا في رائعتهما:
أظلنا العيد والأعياد تجديد
                                     وكل أمر إلى مولاه مردود
‏ العيد ضيف حقيق أن نكرّمه
                                    والجود عادة من عاداته جود
لا لن نقول له والنفس متعبة
                                   عيد بأية حال عدت يا عيد
أبلغ أمية أقصاها وأدناها للعيد
                                 نصر بنصر القدس معقود
نحن السحاب على من جاء مجلسنا
                                وللعدو مشائيم مناكيد
والخيل تعرف يوم الخطب صولتنا
                               لذا يقال عظيم القدر موجود

***إعلامية ومستشارة وأكاديمية الإعلام الرقمي والسياسة

** المصدر: جريدة”الشرق” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى