الليل وآخره – محمد نجيب مطر

 

الجسرة – خاص

اتصل بها زوجها يخبرها بتعب أمها المريضة، وأنهم على وشك نقلها إلى وحدة العناية المركزة في مستشفى القصر العيني، وأخبرها أن تسبقه إلى بيت أمها في الجيزة، أسرعت الخطى نحو محطة مترو الأنفاق في شبرا الخيمة لتلحق بآخر قطار متجه إلى الجيزة، وبالفعل وصلت قبيل موعد القطار بقليل.
جلست على أحد المقاعد لتستريح، بعد مدة وجيزة وصل المترو فركبته وكما توقعت وجدت مقاعد خالية كثيرة لأن الساعة تقترب من الثانية عشرة صباحاُ والطقس بارد، جلست في أحد المقاعد رأت بخيالها أنها وصلت إلى بيت أمها فوجدتها استعادت عافيتها، وتناولت معها العشاء، تصورت نفسها تحتسي الشاي الساخن، و يديها تقبض على الكوب الساخن فيسري الدفء إليهما فتحس بالأمن والانتعاش.
غفت لفترة، وأفاقت على وقوف المترو وهالها نزول جميع الركاب بسرعة دون أن يفصح أحد عن شئ البتة، لم يصعد أحد قبل غلق الأبواب وتحرك المترو رغم أن المحطة كانت مليئة بالركاب، أحست بخوف غامض، لم يحدث أبداً في أي وقت وتحت أي ظروف أن وجدت نفسها وحيدةً في عربة المترو.
نظرت من خلال الزجاج الفاصل بين العربات فوجدت العربة التي أمامها وكذلك العربة التي خلفها خالية تماماً من الركاب، أحست بهستيريا الخوف من الأماكن المغلقة تتسرب بسرعة إلى نفسها.
فجأة توقف القطار في مكان مظلم داخل النفق، وبدأت مصابيح الإضاءة داخل المترو في الإظلام واحدةً تلو الأخرى، سمعت عواء ذئب مخيف بالقرب من النافذة، فاندفعت في جنون حقيقي تحاول فتح الأبواب دون جدوى.
أحست بأن معها داخل العربة مخلوقاً ما لا تراه، ولكنها تحس بأنفاسه خلفها تلفح رقبتها، وتشعر بأن شئ ما يحتك بجسمها، انفلتت في قوة لا تدري من أين جاءتها، وكسرت زجاج صندوق الطوارئ بجوار الباب، ثم شدت عتلة الايقاف بكل قوتها.
انفتحت كل أبواب المترو لكنها وجدت سيدة غير واضحة الملامح تغلق الأبواب دونها المرة الأخرى، رغم أنها كانت تنتقل من باب إلى آخر، فتنتقل السيدة معها، حاولت تسليط الضوء من التليفون المحمول على تلك السيدة لتحدد ملامحها، إنها تشبهها تماماً، إنها هي ولكن بالخارج.
ركلت تلك السيدة التي لا تعرف من أين جاءت وكيف ظهرت بتلك السرعة على مسرح الأحداث، كانت ترتدي ملابس تشبه ملابسها تماماً، فجاءت الركلة على وجهها.
تضررت وهي داخل المترو، ونزفت من أنفها وأحست بالألم، صرخت عندما أيقنت أنها هي الأخرى خارج القطار التي تغلق باب المترو من الأسفل، وهي التي ضربت وهي التي تلقت الضربة، دفعت الباب بقوة وفي سرعة خاطفة قفزت خارج المترو، اختفت الثانية من المشهد وأحست أنها ربما دخلت فيها.
لم يهبط أحد غيرها، أخذت تنادي في الظلام على السائق، أو أي أحد في القطار وهي واقفة على شريط المترو في الظلام في وسط النفق ولم تسمع إلا صوت الصدى.
فجأة أضاءت أنوار المترو مرة واحدة، تحرك المترو مبتعداً عنها وهي تجري خلفه حتى تعبت فتوقفت، فكرت في أنها ربما ركبت القطار المتجه إلى المخازن، لكن لماذا توقف القطار في تلك النقطة؟ لماذا أطفأ الأنوار؟ لماذا تحرك بسرعة فور نزولها؟ حاولت أن تهدئ من روعها وأن تجد تبريراً منطقيا تطمئن إليه حتى يمكنها التصرف بحكمة في هذا الموقف العصيب.
فجأة سمعت صراخ صوت تعرفه، يسري من بعيد في ذلك الليل البارد البهيم، ظهر لها في الظلام شبح يتجه نحوها بسرعة، حاولت إخراج المحمول من شنطة يدها لتضئ به المكان، وتتعرف على هوية القادم، من فرط اضطرابها سقط المحمول على الأرض فاقداً الحياة.
كان الشبح يتجه إليها بسرعة عالية رافعاً قبضته إلى الأعلى وكأنه يحذرها من شئ ما في الطريق إليها، دققت النظر في القادم على البعد فوجدته ابنها ومعه مجموعة من الشباب، يجري وراءهم جمع كبير من المتشابهين أحذيتهم متشابهة، خطواتهم منتظمة، يحملون أسلحتهم ويصيحون بصوت عالٍ بهتافات رنانة تدوي في الفضاء وكأنهم مقبلون على الدخول في معركة الحياة أو الموت، المتشابهون لهم شكل واحد، أحذيتهم واحدة، أطوالهم واحدة، أوزانهم واحدة، زيهم الكالح واحد، وجوههم العابسة واحدة.
ما لبث ابنها أن سقط على الأرض على بعد عدة أمتار فقط منها، أسرعت إليه فوجدته غارقاً في دمه، أطلقت صرخة مدوية زادتها رعباً، ظهر خلفه مجموعة من المتشابهين يهرولون نحوهم، يرفعون في أياديهم البنادق والمسدسات والهراوات والسيوف والرشاشات، كأنك أخذت نسخة من واحد منهم وصنعت منها عدة نسخ متعاقبة.
حملت ابنها وأطلقت ساقيها للريح في الاتجاه المعاكس، جرت عدة خطوات وهالها ما شاهدت، فجأة ظهر لها مترو آتيا في سرعة كبيرة في الاتجاه المقابل، لم تستطع أن تتفاداه، أحست بصدمة المترو المروعة وسقطت مضرجة في دمائها تجرها عربة المترو خلفها، تسمع صرير العجلات المخيف يدوي بالقرب من أذنيها، تسمع الصفارات وعويل سيارات الاطفاء والاسعاف والحريق، يتناهى إلى سمعها بكاء طفل صغير، يهز جسد أمه المسجى، خليط من الأصوات المرعبة والضجيج اللا محتمل يطن في أذنيها بلا رحمة، صور وأحداث تنوء ذاكرتها المرهفة بحمله، اضرب .. تقدم إلى الأمام … لا تدعهم يهربون، ، لا تبقوا لهم أثراً، مع سماع دوي مخيف لزخات الرصاص الذي يتساقط كالمطر فيحصد الأرواح.
رائحة الموت تفوح من بين ركام الأبنية، تدوي صفارات الإنذار المزعجة كالعويل، وصرخات الألم المرعبة وأصوات الرصاص العالية، وانفجار قنابل الغاز، وأزيز الطائرات المروحية حول المكان، يتصاعد الدخان من النيران التي تشتعل في كل مكان، صرخات المصابين تشق عنان السماء، ودعواتهم بفك الكرب، ترى الجرافات ترفع الجثث إلى سيارات النظافة.
شاهدت حرق المسلمين فى بورما، رأت قتل الرضع فى سوريا، نظرت إلى جثث الشوارع فى ليبيا، شعرت بحرق المساجد فى العراق، عرفت ضرب الطائرات فى أفغانستان، رأت بكاء الثكالى فى البوسنة، شاهدت بكاء الجوعى فى الصومال، عرفت الأرامل فى الشيشان، عاشت مذابح المسلمين فى نيجيريا، مرت كل المشاهد مختلطة بصرير العجلات وقرقعة القضبان تحت وطأة ثقل العربات.
يمد ويسحبها وابنها من تحت العجلات في خفة وسرعة يحسد عليها، ويلقى بهما داخل عربة المترو، تجد مجموعتها مقيدة في المقاعد غارقة في دمائها، ولكن ما زالت أجسادهم تنبض، لا يحرسهم أحد، هناك ظل لشخص ما، لا تدري من هو، تحس به و لا يراه أحد.
تُفك قيودهم بلا إنذار، يظلون ساكنين لفترة ثم يقفزون من مكانهم يبحثون عن طريقة للهرب، يحاولون تحريك أرجلهم دون جدوى.
يصاب أحدهم بطلقة متفجرة في رأسه فيسقط مخه بين يديه، تتعالى الصرخات المشروخة من الخوف، يتلقى آخر طلقات خرطوش فيمتلئ صدره بثقوب صغيرة يندفع منها بالدم، يصاب ثالث بطلقة أطارت جزء من الجمجمة، تفتح بطن آخر بسكين حاد فتتدلى أمعاؤه خارج بطنه.
يسحبها أحد المتشابهين وابنها بسرعة إلى خارج العربة، أفاقت على من يخبرها أن آخر مترو تم إلغاؤه لانقطاع التيار الكهربي بسبب الأمطار الغزيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى