المرأة في قصائد أبي نواس: مطمومة الشّعر

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات – في كأس أبي نواس , تجربة خمّارة و خمرة معتّقة , إصطفاها صرفا” , وباكر عناقيدها, فانتشرت دماؤوها في شرايين جسده الممتد طولا” من مرابع (قَطربُل) إلى أكواخ (الكرخ) , وما بينهما من بيوت دهاقنة وما فيها من غلمانٍ ودنانٍ و طويلاتٍ من بساتين شتى.
لذا أخذ الخمر مأخذه في رأس أبي نواس , وقد جرى ماؤوه بحورا” في فجاج (الأهواز) و (البصرة) و سَبَحَ في لججه الشّعر العربي , وما زال يُسًبّحُ له بعد أن لطعته موجة باردة من عقارٍ نواسي بكرٍ مزعفر. فكانت الخمرة مجمل دائرته الشعرية , والمرأة واحدة من المستبعدين قسرا” مع لممٍ لنظمٍ نسوي لا يرقى إلى الخمريات, ولا يتقارن مع العرائش و عرائس الكاسات.
ربما يكون يتمه , وبيت أمه المفتوح على مصرعيه كباب لطلاّب اللّذة , وربما تكون (جنان) التي أجبها ولم تبادله حبه وقد قذفه كُرهُها كَرهَا”, إلى مفاضلة الغلمان على النساء فبلغ شعره فيهم مرفعا” , لم يصل إليه ما قاله فيهن من أشعار.
من هنا ولدت المرأة في شعر أبي نواس على فترات, وفي مخاضاتٍ بائسة و بائسة , وقد لججتها قصائده في سياقات بنيوية مختلفة وأفرد بعضها للسّاقيات كلازمات طبيعيّات للوصف الخمريّ باعتبارهن رموزا” اساسية في كنف الحيّز المتعوي , وافرد البعض الاخر في الحب الذي خلّد جنان في هرمٍ رخيمٍ من دلال السعر.
يقول أبي نواس في جنان بطريقةٍ يستخدم فيها الرموز الدينية ليكشف عن شعائر عشقه ومناسك مذهبه الخمري :
تَمّت, وتَمّ الحسنُ في وجهها فكلُّ شيىء ما خلاها محال
للناس في الشّهرهلالٌ ,ولي في وجهها كلَّّ صباحٍ هلال
وينشد في قصيدة آخرى :
أيا مُلينَ الحديد لعبده داود
ألن فؤاد جنان لعاشق معمود
قد صارت النّفسُ منه بين الحشا والوريد
جنان جودي وإن غزّ كِ الهوىأن تجودي
وبعد الصوم و الدعاء يأتي طواف أبي نواس حول كعبة الحب كعبدٍ مقرٍ برقه لجارية القصر.
أطوف بقصركم في كلِ يومٍ كأنَّ لقصركم خُلقَ الطّوافُ
ولولا حبّكم للزمتُ بيتي ففي بيتي ليَ الرَّاحُ السُّلافُ
أنا العبد المقرُّ بطول رقٍّ وليس عليك من عبدٍ خِلافُ
وفي العشق زهدٌ وتصوف نواسي خاص يكشف فيه عن حبٍ من طرفٍ واحد.
لو كان زهدُك في الدُّنيا كزهدك في وصلِي مشيتِ بلا شكِ على الماء
وفي قصيدة دالة على وجه جنان الكاشح عنه و الكاشف لكل الناظرين يقول أبو نواس:
وجه جنان سُراةُ بستانِ مُجتَمِعٌ فيه كل ألوان
مبذولة للعيون زهرته ممنوعةُ من أنامل الجاني
ولست أحظى به سوى نظرٍ يَشرِكني فيه كلُّ أنسان
لقد عكف أبو نواس على عبادة قائمة على صنم الهوى و اللّذة المفتوحة على خاطر ما يدور في رأس مُسكَرٍ , وقد وقفت المرأة وسط تضاريس لذائذه المتعددة كعمارة شعرية شاهقة , تُشَاهَدُ من خلالها تعرجات طرقه ومفارق مذاهبه:
إنّي عشقِتُ, وهل في العشق من باس
ما مرَّ مثلُ الهوى شيىءٌ على راسي
مالي وللنّاس, كم يَلحَونَني سَفَها”
ديني لنفسي, ودين النّاس للناس
وقد قرأت كتابا”من صحائفكم
لا يرحمُ الله إلاّ راحمَ النّاس
إذا” إنه يدين بدين نفسه الذي أباح له ما حرمه الناس عليه, وقد لامه الكثيرون على إتباعه كصراط قويم يقيه نار الدنيا وجنّة الآخرة.
وفي مرآة الكأس ثمة وجوه إنسية من بطون الأرض, ويصفهن النواسي كمتمرسٍ في سمات النساء فينشد قائلا”:
أبصرت في بغداد روميّه تَقصُر عنها كلُّ امنيَّه
قَصريّةُ الطّرف, شآميَّةُ ال خَلوةِ, في نكهة زنجيّه
صُغديّةُ السّاقين, تركيّةُ ال سَّاعدِ, في قدِّ طخاريّه
هنديّةُ الحاجب, نوبيّةٌ ال فخذين, في زهو عباديه
حِيريًّة الحسنِ كيانيّةُ الأ رداف, في ألية عاجيّه
لقد امتلىء كأسه بالاسماء و الصور لجاريات و غلاميات وساقيات يملأن الدّنان و الأباريق و يسقين من عيونهن و أياديهن خمورا” ذات أسلاف صافيات كالعقيق.
قد سقتني – و الصُّبحُ قد فتَّق اللّي لَ – بكأسين, ظَبَيةٌ حوراءُ
عن بنانٍ كأنه قُضُبُ الفِضّ ةِ, قنىِّ أطرافها الحِنّاءُ
————————
من كفِّ ساقية, يستلُّ ناظرُها لدِقَّةِ الفهم ما أوحى به الواحى
————————–
أشرب كأسا” من كفّها, ولها كأسُ سقامٍ في النّفس تُجرِيها
————————–
والخمر قد برزت في ثوب زينتها فالناس ما بين مخمور, ومصطبحِ
————————–
فالخمر ياقوتةٌ, و الكأس لؤلؤةٌ من كفِّ جارية ممشوقة القدِّ
تسقيك من عينها خمرا”, ومن يديها خمرا” فما لك من سكرين من بُدِّ
—————————–
تسقيك من كفِّ لها رطبة كأنها فلقة جمّارِ
—————————
إذا” ورغم الأذى الذي لحق به جرّاء أمٍ خسرت بعلها ووجدت نفسها وجها” لوجه مع أزمة التأرمل الباكر, وحبيبةٍ شغفته وأسمته بالكلب الذي يلهث وراء سرابٍ. بقيت المرأة حاضرة في شعر أبي نواس وقد دبّت في تلابيب قلبه, كما دبّت الخمرة في وجنته ليسترضغ من ضرعيهما حليب الحب وينزلهما رواقيد الشعر, بعد أن كتب لهما قصائد خالدة على أوراق الكروم.