المستعربة الإسبانية لوث جوميث لـ”الجسرة”: أوروبا تتحدث باسم الشعوب الأخرى بدلًا من أن تسمعها

ندافع عن فلسطين لإنقاذ أنفسنا من أنفسنا
هذه الإبادة للفلسطينيين الغزاويين تسجل ضمن المنطق السابق وصفه، بالتالي فمن المتوقع أن تكون الضفة الغربية هي التالية
الغرب مسؤول بالدرجة الأولى عما يحدث: لقد سمح لإسرائيل بالتصرف بالعقاب الكامل، وهذا ما يجعله متواطئًا في جرائم ضد الإنسانية ترتكبها إسرائيل
القضية الفلسطينية قضية إنسانية تتلاقى فيها قضايا أساسية تخصنا ككائن بشري: العدل، الحرية، الحق في الحياة والجمال، المساواة
في أوربا وباستمرار نتحدث باسم الآخرين، بصوت الشعوب التي تستعمرها أوربا نفسها أو تسيطر عليها، بدلًا من إنشاء طرق لهم ليعبروا عن أنفسهم وأن نسمعهم
أعتقد أن الميديا الصهيونية ليست الأقوى، وإنما الأكثر تنظيمًا.. في هذا تكمن قوتها، ومن هنا علينا كمدافعين عن العدل والحرية أن نقص أجنحتها.
__________ حوار: أحمد عبداللطيف
تعتبر لوث جوميث جارثيا (مدريد، 1967) واحدة من أبرز المستعربين الإسبان في اللحظة الراهنة، وأكثرهم اهتمامًا بالقضايا العربية وفهمًا لها، خاصةً القضية الفلسطينية. ومن مكانها بالأكاديمية الإسبانية، إذ تعمل أستاذًا للدراسات العربية والإسلامية بجامعة أوتونوما دي مدريد، ومن موقعها كمترجمة، خاصةً ترجمة الشعر وبالأخص أعمال محمود درويش، ترفع لوث جوميث بلا هوادة راية الدفاع عن الأرض الفلسطينية، لتوضح للمجتمع المتحدث بالإسبانية حقيقة ما يحدث.
تفعل ذلك في التلفزيون الإسباني، في الصحف التي تكتب فيها، في الفصول الدراسية التي تكرّس لها نهارات الأسبوع، وعبر تويتر، مكانها الأثير لنشر وإعادة نشر ما يخص العالم العربي، ومؤخرًا الحرب على غزة.
تدور أبحاث جوميث الأكاديمية حول الإسلام والإسلاموية وتوضيح الفروقات النظرية والعملية بينهما، واتخذت من عادل حسين نموذجًا لبعض دراساتها، وصدر لها أعمال مثل “السلفية: دنيوية الطهر”، “الإسلام والتخلي عن الملكية: إعادة تعريف الممتلكات” و”بين الشريعة والجهاد: تاريخ الإسلاموية الثقافي”. غير أنها انفتحت أكثر على الأدب العربي، وهو جزء أصيل في اهتماماتها، فترجمت بالإضافة لدرويش، سركون بولص وعباس بيضون وجبران خليل جبران، كما ترجمت مجموعة قصص فلسطينية قدم لها جوزيه ساراماجو.
هنا نتحاور مع لوث جوميث:
- منذ السابع من أكتوبر الماضي، اتخذ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منحى جديدًا. كيف ترين هذه المرحلة؟ وإلى أي مآل يسير الصراع؟
-الهجوم الإسرائيلي خطوة متقدمة في التطهير العرقي الفلسطيني. النكبة لم تكن حدثًا مغلقًا في الماضي: لو أنه في عام 1948 تحقق جزء من المشروع الصهيوني البادئ قبلها بنصف قرن، فمنذ ذلك الحين استمر بأشكال مختلفة: ضم أراضٍ مثل القدس الشرقية واحتلال غزة والضفة الغربية، حالة حرب كامنة مع الجيران العرب بهدف منع أي مشروع تضامني بين العرب، احتلال الضفة الغربية بخلق واقع ديمغرافي جديد، تطويق غزة لمنعها من حياة كريمة، عمليات عسكرية في غزة والضفة الغربية، عنف ممنهج ضد فلسطينيي الداخل، والتمييز القانوني. القائمة ليست كاملة بالطبع. الجديد الآن في الهجوم الحالي على غزة هو درجة العنف والعقاب التي تحرك حكومة إسرائيل. وبدون أي استعارات بلاغية مثل التي استخدمتها في الماضي، حين كانت تغطي بأسماء توراتية عملياتها في غزة منذ 2006، فبداية من 7 أكتوبر تظهر إسرائيل للمجتمع الدولي أنها قررت القضاء على فلسطينيي غزة، في عملية توصف بالإبادة.
لكن هذه الإبادة للفلسطينيين الغزاويين تسجل ضمن المنطق السابق وصفه، بالتالي فمن المتوقع أن تكون الضفة الغربية هي التالية. نحن الآن أمام نموذج جديد للعقاب: نموذج المستعمر الذي يهاجم ويقتل الفلسطينيين، ويحرق بيوتهم، ويدخل القرى عبر الهجمات. الخوف الكبير من ألا تتأخر مرحلة الإبادة الثانية فتكون أكثر جلاءً وعنفًا.
- وكيف تقيّمين موقف الغرب أمام هذه الحرب على غزة؟
- الغرب مسؤول بالدرجة الأولى عما يحدث: لقد سمح لإسرائيل بالتصرف بالعقاب الكامل، وهذا ما يجعله متواطئًا في جرائم ضد الإنسانية ترتكبها إسرائيل. رغم أن درجة المسؤولية تتفاوت من بلد لبلد: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا دعمت إسرائيل عسكريًّا، وسهلت تسليحها، وألمانيا وفرنسا قمعتا بدون تفكير الاحتجاجات الشعبية المتضامنة مع فلسطين في بلديهما، وبعض الدول، مثل إسبانيا، حاولت ألا تكون كومبارسات للقوى الكبرى فنطقت بخطابات محايدة لا تفيد شيئًا. الغرب، في الحرب على غزة، أظهر وجهًا أكثر قسوة للعنصرية المؤسسية، معيار مزدوج تدفع الشعوب العربية فاتورته.
مع ذلك، علينا أن نفرق بين الحكومات والشعوب، وعلى هذا المستوى أظهرت الشعوب الأوربية أنها أكثر عدلًا من حكامها. لم تكن دلائل التضامن مع الشعب الفلسطيني قليلة، بل على العكس تمامًا. لقد تزايدت، رغم انحياز وسائل الإعلام الكبرى وسياساتها لإخراج تطورات الوضع في فلسطين من الصورة.
- العالم الأكاديمي في إسبانيا، أكثر من أي بلد آخر، تحرك لمناهضة هذه الإبادة، غير أن العالم السياسي أكثر بطئًا، كيف تفسرين ذلك؟
– السياسة تعمل وفق مصالح ضعيفة الصلة بالعدل والمساواة بين الشعوب. كان إنشاء دولة إسرائيل فعل إرادة سياسية: أولًا، للكولونيالية البريطانية، كما يبدو في وعد بلفور، ثم إرادة الأمم المتحدة بخطتها بتقسيم فلسطين. بداية من هنا، استحالت إسرائيل دولة منبوذة بالمنطقة، تخدم مصالح القوى الغربية التي تحتاج إلى تقسيم الشعوب العربية لتتمكن من السيطرة على مواردها الطبيعية ووضعها الجيواستراتيجي بشكل أفضل.
أما عالم الجامعة، على الأقل في إسبانيا، فلا يزال يحتفظ بنوع من الاستقلال عن السلطة السياسية، ولا يمكن أن يدير ظهره لموضوعية المعرفة التاريخية والمساواة بين الشعوب. بدونها، ستفقد كلمة “جامعة” معناها unir (يجمع) y ser universal (ويكون عالميًّا). من هنا، تأتي شبكات التضامن الجامعية مع فلسطين ومظاهرات الدعم الحاشدة للأكاديميين الفلسطينيين المعتدى عليهم. في إسبانيا بالذات لدينا #Notmyuniversity وهو موقع جامعي بيني مع فلسطين، ومن خلاله أطلقنا بيانًا لجمع توقيعات تسعى إلى أن تصل إلى حكومتنا مطالبةً بموقف واضح وصريح بإدانة إسرائيل وتنفيذ القوانين الدولية. https://notmyuniversity.org/
- ما السبب في رأيك لتأييد الاتحاد الأوربي وألمانيا بالذات لإسرائيل، لدرجة أنها ترى حقها في الدفاع عن نفسها بتدمير مدينة كاملة؟
- ألمانيا عندها جروحها الخاصة الناتجة عن الهولوكوست، وهذه المسؤولية التاريخية تعمي حكامها أمام الجرائم الواقعة على من تسميهم ورثة الضحايا اليهود القدامى. وألمانيا بلد له ثقله في الاتحاد الأوربي، وبالتالي له تأثيره على بقية دول الاتحاد. وفي صراعه مع فرنسا على قيادة أوربا، يبدو الآن أن كليهما يتبارى لإثبات تأييده لدولة إسرائيل بمازورة أيهما أكثر صداقة معها، وبالتالي أيهما أقوى وأكثر “غربية”. إن عنصرية الحكومتين الفرنسية والألمانية وكرههما للأجانب يجعلهما حليفتين في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وبذلك تبرير جرائم إسرائيل بسهولة، فهو بلد “نا” و”أبيض” و”متحضر”. إنه مخزون الاستشراق القديم الذي قوّضه إدوارد سعيد.
- أنتِ مترجمة الشاعر الكبير محمود درويش للإسبانية، كذلك أنتِ واحدة من أكثر المدافعات عن فلسطين في هذه اللغة، هل يمكن أن تحكي لي قليلًا كيف تبنيتِ القضية الفلسطينية واخترتِ درويش لترجمته؟
- من وجهة نظري، القضية الفلسطينية قضية إنسانية تتلاقى فيها قضايا أساسية تخصنا ككائن بشري: العدل، الحرية، الحق في الحياة والجمال، المساواة. والدفاع عن القضية الفلسطينية يمكن أن يكون شيئًا أنانيًّا، لو سمحت لي باستخدام هذه المفارقة، لأننا ندافع عن فلسطين لإنقاذ أنفسنا من أنفسنا كبني آدميين. بكل جدية، فلسطين تدعونا لنفكر في أنفسنا، وبتضامننا مع فلسطين نقوم بواجبنا الأخلاقي والتاريخي.
أما ترجمة محمود درويش فتدخل في هذا المنطق، ولها وظيفة أخرى: منح صوت للفلسطينيين: إذ في أوربا وباستمرار نتحدث باسم الآخرين، بصوت الشعوب التي تستعمرها أوربا نفسها أو تسيطر عليها، بدلًا من إنشاء طرق لهم ليعبروا عن أنفسهم وأن نسمعهم. في هذه الحالة، محمود درويش فلسطيني يتحدث لفلسطينيين آخرين، للعرب وللإنسانية جمعاء من خلال لغة الشعر العالمية. لغة لها وظيفة سياسية لكنها أيضًا وجودية وجمالية. لأنه كما يقول درويش نفسه، الفلسطيني ليس قضية، وإنما رجل وامرأة، يحب ويأكل ويضحك ويحلم ويبكي، ولا يمكن أن يسمح لنفسه بأن يستعمر عقله الاحتلال والتهجير والعنف.
- جميل، في هذا السياق، هل تظنين أن الأدب المكتوب بالعربية بوسعه أن يعكس ويمثل آلام الفلسطينيين؟
- بالطبع، فلسطين أيضًا قضية عربية، قضية الشعوب العربية. وفي العالم العربي يحدث قليلًا مما أشرنا إليه في أوربا: قمة فجوة بين سياسات الحكام وموقف الشعوب. والأدب خير نموذج. ثمة روايات كبيرة لكتاب عرب غير فلسطينيين تتناول التراجيديا الفلسطينية، منذ النكبة وحتى اليوم. أفكر على سبيل المثال في “باب الشمس” لإلياس خوري. أو في عمل رئيسي ومهم جدًّا، يضم التراجيديا الفلسطينية والأندلسية، كما في الطنطورية، ثلاثية رضوى عاشور. الشيء نفسه يصلح للشعر، من مؤلفين مغاربة مثل محمد بنيس لشعراء عراقيين مثل سعدي يوسف. أنت نفسك، كروائي من جيل أكثر شبابًا من المؤلفين المذكورين، تشغلك بشكل خاص هذه القضية.
فلسطين والأدب العربي واحد من أفضل تجسيدات هذا الوصف للعالم العربي الذي يتحدث عن “من المحيط للخليج”.
- هل تعتقدين أن الصوت العربي مسموع في الغرب، أم أن الميديا الصهيونية هي الأقوى؟
- أفضّل أن أعتقد أن الميديا الصهيونية ليست الأقوى، وإنما الأكثر تنظيمًا. في هذا تكمن قوتها، ومن هنا علينا كمدافعين عن العدل والحرية أن نقص أجنحتها. هم لا يدافعون عنها، وهم ضعفاء دومًا، لأن العدل والحرية إما للجميع وإما للا أحد، كما يقول راجي الصوراني (النازح اليوم من غزة نفسها، بعد أن كان محاصرًا بداخلها).
إن كشف قناع المغالطات الصهيونية ليس صعبًا، مهما كان الثمن. يجب ألا نتحلى بالشجاعة، يكفي جمع كل قطرة ماء في كوب واحد، نحن كثيرون وعلينا أن ننظم أنفسنا. ولذلك علينا أن نعتمد على زملائنا العرب.
كأكاديمية وجامعية، يهمني الرد على دعوة زملائي بجامعات بيرزيت والنجاح والقدس والجامعة الإسلامية بغزة أو بيت لحم. وترجمة ونشر بياناتهم وتأييدهم في موقفهم. على سبيل المثال، بمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية التي تدعم الاحتلال والتمييز العنصري. هنا، في أوربا وفي إسبانيا، على الأكاديميين، بالإضافة لذلك، إطلاع وسائل الإعلام الأوربية على حتمية تعدد الأصوات وإظهار الأصوات الفلسطينية والعربية. وهو ما أحاول شخصيًّا فعله من خلال كتاباتي للصحافة وتعاوني مع الإعلام الإسباني.
- في هذا السياق، ماذا تفعل الجامعة الإسبانية وجامعة أوتونوما دي مدريد بالتحديد لتوضيح صورة العالم العربي المعاصر ومن داخله القضية الفلسطينية؟
- جامعة أوتونوما دي مدريد لها تاريخ طويل في التضامن مع فلسطين. ليس في السياسة فحسب، وإنما على المستوى الأكاديمي من خلال نشر دراسات أدبية وتاريخية واجتماعية. لا أبالغ لو قلت إن هذا الموقف من علامات هويتها منذ تأسيسها في السبعينيات على يد بدرو مونتابيث وكارمن رويث وبرنابيه لوبيث.
وحاليًا، نتبع الخط نفسه لكننا نحاول كذلك الخروج من خط الدراسات العربية لنتعاون مع زملاء في أقسام الأنثروبولوجي والبيولوجي والحقوق والجغرافيا، في محاولة لتوسيع دائرة النشاط حول فلسطين. وفتحنا اتفاقات بحثية مع العديد من الجامعات المذكورة سلفًا، وعلى مستوى التدريس تلقينا طلابًا فلسطينيين في تبادل طلابي مع جامعة أوتونوما. نعتقد أن خط التبادل الطلابي أساسي لتعميق المعرفة عن فلسطين لكل المستويات الجامعية وكذلك للمجتمع بأسره.
يجب أن أذكر أن كل ذلك تم بفضل تضامن مدرسين وطلاب وجهاز إداري التفت حول مبادرة “جامعة أوتونوما من أجل فلسطين”، وهي مبادرة بدأت في 2011. اليوم، تنظم الجامعة تجمعًا لمناهضة إبادة غزة. واليوم، بدأنا قراءة أسماء ضحايا الهجوم الإسرائيلي والإشارة إلى أعمارهم، وهي قراءة عامة في الساحة الرئيسية للجامعة ونطمح أن تستمر كل أسبوع في الساعة نفسها، ليشارك فيها المجتمع الجامعي كاملًا. نريد أن نذكّر أن كل ضحية هو رجل أو امرأة، طفل أو طفلة، وأن حياته مقدسة وتم انتهاكها.
**المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد: 63