المعالم الحضارية بالمغرب .. صراخ بنبرة ذابلة

مصطفى المغراوي
تتعدد الفنون البصرية وتتنوع بتنوع الفنانين الذي يمارسونها ويسعون جاهدين إلى ضمان استمراريتها، لتبقى نبراسا دالا على عظمة منشئيها، ومن بين هذه الفنون فن العمارة باعتباره من النشاطات الأكثر تجسيدا للواقع الحضاري لأية أمة من الأمم، ولكونه أيضا نشاطا يعكس الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات كما يؤثر في أنماط الحياة والسلوك الاجتماعي العام.
ولا يخرج النموذج المغربي في فن العمارة عن هذا النسق بحفاظه على خصوصيته المتفردة المغرقة في الأصالة، والضاربة في أعماق التاريخ لقرون طويلة، متأثرة بالطابع الإسلامي الذي له ميزات خاصة، ونلاحظ ذلك في الانتشار القوي لهذه المعالم الحضارية في أغلب المدن العريقة كفاس ومراكش ومكناس، ويتشكل هذا النسيج العمراني عموما من مساجد وقصور وقلاع وغيرها.
وتتسم هذه الفضاءات بمميزات خاصة كانتشار النوافير داخل الأفنية، واتخاذها مركزا وبؤرة لانطلاق الرسومات المتعددة الأشكال بتزاويقها المختلفة الألوان، بشكل يجعلها أكثر إثارة للأنظار وأقوى سحرا للألباب والعقول. أما الحوائط والجدران فتبلغ ارتفاعات شاهقة تنتهي بسقوف مزخرفة تتوسطها قباب مستديرة ومستطيلة تزيد المنظر بهاء ورونقا، وتشتمل الممرات المؤدية إلى الأفنية والغرف على أقواس مرتبة على التوالي، يشكل بعضها بوابة تفضي إلى بعض الباحات العامة التي ترتفع فيها عواميد مصقولة بالمرمر والرخام.
ومن بين هذه المعالم العديدة: صومعة حسان التي بناها يعقوب المنصور الموحدي سنة 593 هـ، ويوجد قبلها جامعة القرويين بمدينة فاس والتي بنته فاطمة الفهرية سنة 245 هـ، إضافة إلى مسجد الكتبية وحدائق المنارة بمراكش ومجموعة من الأبواب الضخمة التي تحيط بالمدن العتيقة الموزعة على أرجاء المغرب، والتي تمتاز بزخارفها الخلابة المنحوتة على الفسيفساء المتعددة الاشكال والالوان.
لكن الأمر الذي يُؤسف له حقا هو تحول هذه المعالم إلى جحور خاوية يأكل الزمان ما تبقى من حطامها المنكسر، ورغم المحاولات الترميمية البسيطة على قلتها، فإن هذه العمليات غالبا ما تشوبها بعض الخروقات في الترميم لعدم دراية المقاولات المكلفة بذلك لهذه العملية التقنية.
ومن المشاهد التي تدمي القلوب وتحز في النفوس، انهيار ثلاث قباب توجد أمام المحراب بأحد المساجد العتيقة، وقد أدى ذلك إلى إتلاف المعالم الأثرية واختفاء النقوش، مما يدل على عدم احترام المعايير المعتمدة في هذا المجال، ورغم ذلك يظل المسؤولون يُفَوِّتون صفقات هذا الترميم لمقاولات بعينها رغم ثبوت فشلها في خرق سافر للقانون المنظم لهذه العملية.
ويتعرض الموروث الحضاري بالمغرب للإبادة والاندثار والزوال والذي يمكن اعتباره طعنا غادرا للتاريخ العريق للبلاد، بسبب عرقلة المجهودات الداعية للاهتمام به والحد من شموليتها، مما يعرض هذا الرأسمال الرمزي الخالد إلى فقدان مقوماته التي غمرها النسيان ونالت منها عوامل الزمان، كنتيجة منطقية لإهمال الوزارة الوصية، ناهيك عن مساهمة المواطن غير الواعي في سرعة زوالها، بتعريضها للتخريب الممنهج عن طريق العبث بها من أجل تحقيق الثراء على حساب التاريخ والأرض والوطن.
إن التجاهل واللامبالاة أصبح هو السمة المميزة للمعالم الحضارية المغربية التي تعتبر مزارا لكل الأجناس البشرية وبخاصة الأوروبيين صيفا وشتاء، والذين يأتون ُزرافات ووحدانا للتعرف على أمجاد الدول التي تعاقبت على حكم المغرب وما خلفته من موروث حضاري ذاع صيته في الزمان والمكان، مشكلا بانوراما يمتزج فيها الواقع بالخيال، ومشيرا في نفس الآن إلى عظمة تلك المعالم وعظمة صانعيها.
فمن خلال تشخيص رصيد البلاد الأثري يتبين بوضوح مدى جسامة المشكل المطروح وصعوبة إيجاد الحلول لإنقاذ هذه المعالم النفيسة من الاندثار والذوبان، بفعل تضافر مجموعة العوامل وعلى رأسها تقصير المكلفين وتخاذلهم وعدم الإحساس بهول ما يجري حولهم، غير آبهين بفظاعة المشهد وقذاعة المنظر، حيث يقف الجميع مترقبا تربص الدمار بهذه المنشآت الحضارية العملاقة، جاعلا منها أكواما من الحجارة المهشمة ضاع معها حيز جزء مهم من تاريخ البلاد.
وفي ظل هذا الوضع المأساوي وفداحة الواقع المتهاوي لا يسعنا إلا البكاء والعويل والنحيب على ما يجري في ظل الصمت المطبق الذي يمارسه المسؤولون والذين ينتظرون اكتمال عملية السقوط والانهيار على مرآى ومسمع الكل، في انتظار نخبة واعية وعيا شاملا بهذا الموروث العظيم، غيورة على تراث وطنها غيرة تضمن له الاستمرار، ليبقى نبراسا ومنارة تستضيء بنورها الأجيال القادمة داخل المغرب وخارجه.
(ميدل ايست اونلاين)