اليوم الدولي للترجمة .. تننوع معرفي وحوار بين الثقافات
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تعد أهم وأكبر جائزة ترجمة في المنطقة

الدوحة – قنا
يتزايد الوعي بالدور الحيوي الذي تلعبه اللغات في التنمية البشرية، وفي ضمان التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات، وتحقيق التعليم الجيد للجميع وبناء مجتمعات المعرفة الشاملة، فضلا عن تعبئة الإرادة السياسية لتطبيق فوائد العلم والتكنولوجيا لمصلحة التنمية المستدامة.
ويأتي الاحتفال السنوي باليوم الدولي للترجمة لتذكير المستخدمين من المترجمين وخدمات الترجمة للأعمال الهامة التي يقوم بها المترجمون بإتقان ومثالية، حيث يغفل كثير من الناس جهود هذه الفئة التي تمارس دورها اللغوي من أجل إخصاب الحقول المعرفية.
ويتحدث البشر نحو 7 آلاف لغة، قليل منها مكتوب وأغلبها محكي فقط، ولذلك كان لا بد من جسر يربط بين هذه اللغات لتبادل الخبرات والثقافات، ومن هنا برزت أهمية الترجمة التي ساهمت في تناقل المعارف بين اللغات العديدة، حيث شكلت قيمة أساسية للأمم المتحدة التي جعلت يوم الـ30 من سبتمبر يوما عالميا للترجمة، لما تمثله من أهمية للهوية والتواصل والتكامل الاجتماعي والتعليم والتنمية، كما أنها فرصة لعرض مزايا هذه المهنة التي تزداد أهمية في عصر العولمة.
وعلى هذا الأساس، أعلن الاتحاد الدولي للترجمة أن شعار اليوم العالمي للترجمة لعام 2023 هو “عالم بلا حدود”، لأن الترجمة ليست فنا جانبيا من حياتنا، فهي تحتل أهمية استراتيجية للناس وكوكب الأرض بما تمنحه من سبل للتواصل بين الشعوب والثقافات.
ومنذ 1991 بدأ الاتحاد الدولي للمترجمين الاحتفال الرسمي سنويا بهذه المناسبة، بينما صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017 على إقرار هذا اليوم الدولي والاحتفاء به، حيث وقعت على مسودته إحدى عشرة دولة بينها دولة قطر.
وتنشط في مجال الترجمة روابط وهيئات عالمية عدة بينها، الاتحاد الدولي للمترجمين الفوريين في المؤتمرات، و”كريتيكال لينك إنترناشيونال”، الاتحاد الدولي للمترجمين والمترجمين الفوريين المحترفين، و”ريد تي”، الاتحاد العالمي للمترجمين الفوريين للغة الإشارة، وتعمل جميعها في التعريف بما يؤديه المترجمون من أدوار، إذ إن نقل العمل الأدبي والعلمي والفني، من لغة إلى لغة أخرى، والترجمة المهنية للمصطلحات، أمر لا غنى عنه للحفاظ على الوضوح والمناخ الإيجابي في الخطاب العام الدولي والتواصل بين الأشخاص.
ولا تكون الترجمة في الأساس مجرد نقل كل كلمة بما يقابلها في اللغة المستهدفة، ولكن نقلا لقواعد اللغة التي توصل المعلومة ونقلا لفكر الكاتب وثقافته وأسلوبه أيضا، وقد اختلفت النظريات اللغوية في الترجمة بشأن كيفية تنقل هذه المعلومات من المصدر إلى الهدف، فوصف المؤرخ اللغوي جورج ستاينر نظرية ثالوث الترجمة بأنها الحرفية (الكلمة بالكلمة) والحرة (الدلالة بالدلالة) والترجمة الأمينة، بينما يقول الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو إن الترجمة “قول الشيء نفسه تقريبا”، حسب تعبيره، على أن المؤلف الفرنسي الأمريكي جورج شتاينر يرى أننا بدون تنوع اللغات “سنعيش في مقاطعات محاطة بالصمت”.
وفي البحث التاريخي، تشير الآثار والمنحوتات إلى أن أول حضارة عرفت الترجمة هي حضارة ما بين النهرين، وكانت عبارة عن معجم مكتوب فيه مجموعة كلمات وتقابلها معانيها، بالإضافة إلى ترجمة أجزاء من ملحمة جلجامش السومرية، إلى عدة لغات آسيوية منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ثم ازدهرت الكتابة بعد ذلك في بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة.
كما يقال أيضا إن الرومان أول من باشر مهنة الترجمة عام 4000 قبل الميلاد، وكان الخبيران “سيسيرو” و”هوراس” أول من وضع النظريات المتعلقة بالكلمة والمعنى، أما العرب بعد انتشار الإسلام واختلاطهم بأمم وشعوب مختلفة كالروم والفرس، فقد ظهرت حاجتهم لعلومهم مما أدى بهم إلى ترجمة الكتب والمؤلفات.
وفي زمن الدولة الأموية، تمت ترجمة الدواوين، ثم اتسعت الترجمة في العصر العباسي بعد الفتوحات نحو الشرق والغرب، واتصال العرب المباشر بغيرهم من الشعوب المجاورة وفي مقدمتهم الفرس واليونان، فازدادت الحاجة إلى ترجمة علوم اليونان، وبعض الأعمال الأدبية الفارسية، فترجموا عن اليونانية علوم الطب والفلك والرياضيات والموسيقى والفلسفة والنقد.
وبلغت حركة الترجمة لدى العرب والمسلمين مرحلة متطورة في عصر الخليفة هارون الرشيد وابنه المأمون، الذي يروى أنه كان يمنح بعض المترجمين مثل حنين بن إسحق ما يساوي وزن كتبه إلى العربية ذهبا، ومن المعروف أن المأمون أسس دار الحكمة في بغداد بهدف تنشيط عمل الترجمة، وقد ترجم وألف حنين بن إسحق الكثير من الكتب في علوم متعددة، وتابع ابنه إسحق بن حنين بن إسحق هذا العمل.
ومع بلوغ القرن التاسع الميلادي، قام العرب والمسلمون بترجمة معظم مؤلفات أرسطو، وهناك مؤلفات كثيرة ترجمت عن اليونانية إلى العربية، وضاع أصلها اليوناني فيما بعد، فأعيدت إلى اللغة اليونانية عن طريق اللغة العربية، أي أنها لو لم تترجم إلى اللغة العربية لضاعت نهائيا، ومن أشهر الكتب التي ترجمها العرب هو كتاب “كليلة ودمنة” الذي ألفه باللغة السنسكريتية الفيلسوف الهندي بيدبا، وقام عبد الله بن المقفع في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور بترجمته من الفارسية إلى العربية وأضاف إليه بعض الأشياء.
أما في العصر الحديث، فقد بدأت كبرى الشركات العالمية في إنشاء أنظمة الترجمة الآلية المرتبطة بالإنترنت، مثل جوجل وغيرها، ثم تطورت الترجمة الآلية مع إطلاق شركة جوجل عام 2016 نظام الترجمة الآلية العصبية (GNMT)، مؤكدة أنه لن يمكن تمييز الترجمات الآلية بهذه التقنية عن ترجمات البشر، وتزايد الاعتقاد بأن المهنة العريقة في طريقها للاندثار على أيدي الآلات، خصوصا مع موجة استخدام آليات الذكاء الصناعي مؤخرا والتي بدأت تطرق كل الأبواب، لكن هذه المشاريع التي ظن الكثيرون أنها ستبدأ بإزالة الحواجز اللغوية وانتفاء الحاجة إلى المترجمين لم تنجح فعليا، على الأقل لغاية الوقت الراهن، فما زال المترجمون يمارسون عملهم في شتى المجالات، بما فيها السياسة والتجارة والإعلام والسياحة وحتى الدوائر الحكومية.
وفي العالم العربي، وانطلاقا من أهمية الترجمة، فقد وضعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الألكسو” الاهتمام بهذه الفئة مبكرا، خطة قومية للترجمة أقرها مؤتمر وزراء الثقافة العرب خلال مؤتمر بالجزائر عام 1983، ووجهت “الألكسو” المراكز والإدارات التابعة لها نحو إغناء المكتبة العربية بالترجمات الأدبية والثقافية والعلمية من مختلف اللغات، ووضع الكثير من المعاجم المتخصصة التي تساعد المترجمين على نقل المعارف من مختلف الثقافات إلى لغتنا العربية.
وفي هذا السياق التطويري للاهتمام ببناء جسور التفاهم والتواصل بين مختلف الثقافات والمجتمعات الإنسانية، بادرت دولة قطر بتأسيس “جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي” عام 2015، إسهاما منها برعاية الترجمة بين اللغة العربية ومختلف لغات العالم، لدفع مسار المثاقفة ودعم حركة الترجمة في العالم من اللغة العربية وإليها، لتصبح هذه الجائزة بعد سنوات قليلة من انطلاقها، أهم وأكبر جائزة ترجمة في المنطقة.
وقد تأسست الجائزة بالتعاون مع منتدى العلاقات العربية والدولية، وهي جائزة عالمية يشرف عليها مجلس أمناء مستقل، ولجان تحكيم محايدة، ولجنة تسيير احترافية تشكلت لهذا الغرض.
وتسعى الجائزة إلى تكريم المترجمين وتقدير دورهم عربيا وعالميا في مد جسور التواصل بين الأمم والشعوب، وفي تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين أمم العالم وشعوبه، ومكافأة التميز، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع والتعددية والانفتاح، كما تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي عبر فعاليات الترجمة والتعريب.
وتهدف الجائزة لتشجيع الأفراد ودور النشر والمؤسسات الثقافية العربية والعالمية على الاهتمام بالترجمة والتعريب والحرص على التميز والإبداع فيهما، والإسهام في رفع مستوى الترجمة والتعريب على أسس الجودة والدقة والقيمة المعرفية والفكرية، وإغناء المكتبة العربية بأعمال مهمة من ثقافات العالم وآدابه وفنونه وعلومه، وتقدير كل من أسهم في نشر ثقافة السلام وإشاعة التفاهم الدولي، أفرادا ومؤسسات.
وتنقسم فئات الجائزة إلى ثلاث فئات، فالفئة الأولى تختص بجوائز الترجمة، وتنقسم إلى الفروع الأربعة التالية: الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية، والترجمة إلى اللغة العربية من اللغة الإنكليزية، والترجمة من اللغة العربية إلى إحدى اللغات الأجنبية الأخرى، وأخيرا الترجمة إلى اللغة العربية من إحدى اللغات الأجنبية الأخرى.
أما الفئة الثانية فهي جوائز الإنجاز، وتمنح لترجمات من لغات مختارة إلى اللغة العربية ومن اللغة العربية إلى تلك اللغات التي تشمل الأوردية، والأمهرية، والهولندية، واليونانية الحديثة، بالإضافة إلى اللغة السندية التي أضيفت ضمن جوائز مسابقة هذا العام 2023 في دورتها التاسعة، فيما خصصت الفئة الثالثة لجائزة التفاهم الدولي، وتمنح تقديرا لأعمال قام بها فرد أو مؤسسة، وأسهمت في بناء ثقافة السلام وإشاعة التفاهم الدولي، حيث تقبل الترشيحات من قبل المترشح نفسه أو عن طريق المؤسسات المختصة.
كما تمنح الجائزة بناء على مجموعة أعمال تم إنجازها في مجال الترجمة من اللغة العربية أو إليها، و ساهمت في إثراء التواصل الثقافي والمعرفي، ويبلغ مجموع الجوائز مليوني (2.000.000) دولار أمريكي، وتتوزع على ثلاث فئات: جوائز الترجمة (800.000 دولار أمريكي)، وجوائز الإنجاز (1.000.000 دولار أمريكي)، وجائزة التفاهم الدولي (200.000 دولار أمريكي).