بشرى – سمير الاسعد

الجسرة – خاص
بشرى جميلة وسارة. جاءت في صباح استيقظت فيه مكتئبا دون سبب. قد يكون توقعا سيئا ليوم من أيام فلسطين التائهة يحمل بشائر الجمود والروتين لأحداث متكررة.
منذ أن كنا صغارا نلهو في شارع حارتنا الوحيد نلعب العاب الأطفال وأحلامنا لا تتجاوز انتظار نهاية الليل وبزوغ يوم جديد، كي نلتقي ونمارس هوايتنا في الجري والدوران.
وهوايتي الخاصة في إثارتها واستفزازها حتى تتساقط الدموع من عينيها، كانت مثار حيرتي حينما كانت تقرصني مشاعر غامضة اتجاهها دون أن اعرف معناها. حتى أصبحت بشرى زوجة أخي، فعرفت حينها معنى مشاعري الصغيرة التي كبرت معي وتحولت إلى الغيرة والحسد.
واليوم تأتي بشرى غير متوقعة بعد سبعة أعوام من زواجي بها خلال اقل من سنة من طلبها الطلاق من أخي الذي حكم لعشرين عاما في سجون الاحتلال، ورغم الأقاويل والإشاعات التي دارت حول علاقتي المفترضة بها إلا أنني شعرت بالانتصار وتجاهلت أعين الناس وألسنتهم. وبررت ذلك بالحفاظ على طفل أخي حتى الإفراج عنه في حال لم تحتمل وتزوجت من شخص غريب قد لا يحسن له.
الإفراج عن مئات الأسرى من سجون ومعتقلات الاحتلال نتيجة لتفاهمات عملية السلام وكان اسمه من بينهم. الفرح الذي انتابني لم يكن بقدر توقع الآتي. القادم من الأسر سيجلب معه نفحة من ظلام محشو بالحقد والغضب. أفقت من حلم ظننت أنه سيدوم طويلا، إلا أن ما كل ما يتمناه المرء يدركه.
حاولت أمي قبل وفاتها الإصلاح بيننا إلا انه رفض ذلك مطلقا وهدد دون تراجع بأنه سينتقم لشرفه الذي دنسناه بعد أن يخرج. وفشلت كل جهود المصالحة التي قام به العديد من الأصدقاء ورجالات الخير والإصلاح. وأعلن براءته مني كأخ له ووضعني في مصف الأعداء كوني أغويت زوجته وخنت الأمانة.
انقطعت عن أخباره بعد وفاة أمي، وعشت أيامي منشغلا بعملي داخل الحزب وتربية ابنتي وابنه ونسيت أمره تماما.
اقترب الموعد وتمايلت كفة القلوب في ميزان الوقت. تباينت مشاعر بشرى وضاق خلقها وأصبحت عصبية جدا. انعكس ذلك على حديثها حينما بادرتني قائلة :
-حياتنا الوادعة قد تنقلب قريبا الى جحيم. قد يصل الأمر إلى العنف وأخذ ثأر مزعوم. أظنك ستبقى بجانبي حتى النهاية.
– لا تستبقي الأحداث، قد نصل الى تسوية دون مشاكل.
– أنت أعرف الناس بأخيك، توقع منه الأسوأ. الحقد يملا قلبه ومشاعر الخيانة تسيطر على عقله.
أعي تماما مدى صدق توقعاتها إلا أنني لم اهتم بإظهار مقدار القلق الذي يعصف بي أمامها.
لكنني اشتاق له كثيرا وفي نفس الوقت أخاف منه. كم تمنيت لو سارت الأمور بشكل
طبيعي وعشنا حياة هادئة هانئة لا يعكر صفوها ما نحن فيه الآن. لو لم يسجن ولو لم تطلب زوجته الطلاق .. ولو ..ولو
صدقا أنا لم أشجعها على الطلاق منه، ولكن بعد أن تطلقت ولم يعد هناك طريق للرجوع طلبتها ووافقت على الفور. ما الذي يمكن أن يقنعه بمدى صدقي وما هو التبرير المنطقي الذي يجعله يقبل بما حصل دون ردة فعل قاسية؟
وجاء الخبر اليقين .. الصفقة في الغد.. جميع الأطراف مبتهجة .. إلا أنا وبشرى.
حاولت جاهدا أن أرسلها والأولاد الى عمان عند خالتها لكنها أصرت على البقاء ومواجهة الواقع.
.. يركب أعلى ما في خيله، يوجد قانون في البلد.
.. أرجوك أن تستمعي لي هذه المرة فقط.
.. لا يمكن أن ارحل وأتركك وحدك.
ومع عنادها واستنفاذي كل السبل والوسائل في إقناعها صرحت لها حقيقة ما يجيش في صدري المتعب:
.. قد يسيل دم وأنت تركبين رأسك، أنا أعرفه تماما واعلم ما قد يقدم عليه.. اندفاعه وجرأته أوصلته الى الأسر بعد أن قتل صديقه بدم بارد دون أن يثبت له انه عميل للاحتلال. كانت مجرد شبهات.
في الليل جاءني وجهاء الحارة وأصدقاء لنا وشددوا على ضرورة أن أرافقهم لاستقباله أمام السجن في الصباح بعد أن أعطوني المواثيق والعهود بقدرتهم على تسوية الوضع على أن أكون أول من يستقبله. وافقت دون تردد. وفي الصباح ذهبنا معا وتركت بشرى هائجة مثل حيوان حبيس يرى أولاده يوشك أن يأكلهم دب وحشي. وقفت وحيدا في اقرب مكان مسموح به من البوابة الرئيسية في انتظاره، وبعد حوالي الساعة لمحته من بعيد يتوسط عدة أسرى يحيطهم الجنود. وحين اقتربوا من البوابة.. التقت نظراتنا .. وارتجفت. كانت نظراته نارية وعيناه لا تنزلان عني .. أحسست برغبة جارفة بالفرار وأنا اعتقد جازما أن هذا اليوم هو الأخير في حياتي.. لم أقاوم أشعة الشر التي انتشرت في المكان فارتبكت وزاد من ارتباكي صرخات جمهور الاستقبال وهتافاتهم.
أخيرا فتحت البوابة وبدأ الأسرى بالخروج وكان آخرهم، مد قدمه اليمنى الى الخارج بوجه جامد تغادره ملامح السرور والبهجة، واستسلمت للمصير الأسود بعد أن ضاعت مني قدرتي على الحركة .. وفجأة رفعت رأسي على جلبة غطى صوتها على كل الأصوات، أغلقت البوابة بعد أن سحبوه الى الداخل وحدثت مشادة وتدافع الى أن القوه على الأرض وكبلوا يديه خلف ظهره، ثم جروه أمامهم عائدين الى الداخل. أطلقت قنابل الغاز على الحشد ورائي الذي جن جنونه وارتفع صوت من سماعات معلقة على جانبي البوابة يطالبنا بالتفرق. ثم ترافق الصوت مع ضحكات شامتة وصوت غناء بلغة عربية ركيكة امتزج بكلمات نابية تصف أخي بالإرهابي الذي سيمضي بقية حكمه.
في هذه اللحظة صرخت بأعلى صوتي مناديا على اسمه وأنا اركض اتجاه البوابة وأهزها بقوة، ثم شعرت بالألم وتدفقت الدماء من صدغي الأيمن .. تباينت الصرخات منها ما يطلب الإسعاف ومنها ما يهدد بإطلاق النار والابتعاد عن البوابة ثم تداخلت وفقدت إحساسي وأغمي علي.
أخيرا استيقظت مشوش الذهن والرؤية على سرير في غرفة تملأها أجهزة تصوير طبية
يقف عدة أطباء يراجعون عدة صور أشعة معلقة على الحائط المقابل ويتناقشون بصوت اقرب الى الهمس، حاولت تحريك أطرافي فلم أفلح وفقدت صلتي بالعالم المادي كأنني روح هائمة في مدار جسد عاطل عن الحركة، الى أن ارتفع صوت احدهم وهو يقول:
– المسكين أصابته الرصاصة بالشلل.